د.عصام عسيري

شمال السعودية… متحف مفتوح لحضاراتٍ نطقت بالحجر 

حين يروي الحجر قصة الإنسان في شمال المملكة العربية السعودية، لا يسير الزائر على رمالٍ صامتة، بل على أراضٍ تنبض بحكاياتٍ عمرها آلاف السنين. هناك، تتحدث الصخور، وتروي الجبال، وتستعرض الأودية سجلاً زمنيًا هائلًا لوجود الإنسان، وحضوره، وإبداعه. إنها الأرض التي شكّلت ذاكرة الجزيرة، لا بالكتابة وحدها، بل بالنقش والرسم والنحت والبناء كأنها تحوّلت إلى متحف مفتوح يُعرض فيه التاريخ بأساليبه الأولى. أول الحكاية: آثار ما قبل التاريخ يُجمع علماء الآثار على أن شمال الجزيرة العربية، وبخاصة مناطق مثل الجوف وتيماء وحائل وخيبر، كانت مأهولة منذ العصور الحجرية القديمة، إذ وجدت أدوات حجرية بدائية في مواقع مثل “النسيم” بحائل، تُقدّر أعمارها بأكثر من 350 ألف سنة. ومع مرور العصور، ظهرت المستوطنات الزراعية الأولى، وتجلّى في الأودية أول معمارٍ بشريّ واضح، يتكوّن من هياكل حجرية دائرية وممرات طويلة تُعرف بـ”مصائد الصيد الصحراوية” أو “الطائرات الصحراوية”، وهي هندسة فطرية مذهلة سبقت الهندسة الأكاديمية بآلاف السنين. النقوش والرسوم: عندما نطق الجدار ربما لا تكتمل صورة الشمال السعودي الأثري دون التوقّف عند إرثه الصخري الباذخ، حيث تُعدّ مواقع مثل جُبّة والشويميس في حائل والشويحطية من أعظم أرشيفات الرسم البشري القديم في العالم، وقد سُجّلت على قائمة اليونسكو للتراث العالمي. تتزاحم على هذه الصخور آلاف الرسوم التي تُظهر البشر وهم يرقصون، يصطادون، يربّون الماشية، أو يرفعون أيديهم للسماء؛ كأننا أمام شريط سينمائي خام للحياة اليومية في عصورٍ لم تخلّف كتبًا. وتتماثر الكتابات القديمة نقوش بلغاتٍ قديمة مثل الثمودية واللحيانية والآرامية والنبطية والهيلوغريفية وحتى اليونانية. في تلك المساحة الشاسعة، تتعانق الفنون واللغات، وتتجاور الحضارات كما لو كانت هذه الأرض ملتقى ثقافيًا عالميًا قبل آلاف السنين. مدائن صالح: المرآة الكبرى لحضارة العرب الأنباط لكن التاج المرصّع على جبين آثار الشمال يظلُّ مدائن صالح (الحِجر)، أول موقع سعودي يُدرج ضمن قائمة التراث العالمي لليونسكو. هناك، نحت الأنباط قبورهم في الصخر الرملي بمهارة تعجز عنها أدوات اليوم، فتركت خلفها أكثر من 110 مدافن ضخمة تزيّن واجهاتها عناصر معمارية هلنستية ومصرية، وأحيانًا محلية، في تزاوجٍ حضاري فريد يحنع لغات وفنون العالم القديم بمختلف حضاراته. لقد كانت هذه المنطقة نقطة التقاء على طريق البخور، وملتقى للتجارة والقوافل، ما جعلها أكثر من مجرد مقبرة… بل مدينة تجارية زاخرة كانت شاهدة على ازدهار الفن العربي القديم وتقدّمه في العمارة والماء والهندسة. واحات الحضارات: تيماء ودومة الجندل وخيبر في أعماق صحراء تبوك، وعلى تخوم النفود، نشأت واحاتٌ تحوّلت إلى ممالك صغيرة مستقلة، مثل تيماء التي تعود آثارها إلى الألف الرابع قبل الميلاد، وتُظهر نمط حياةٍ مستقرة ومزدهرة، حيث الكتابة الآرامية والنقوش البابلية والمعابد الآرامية. وفي دومة الجندل، تلتقي آثار النبطيين بالرومان بالعرب الجاهليين. أما خيبر، فهي أكثر من واحة؛ إنها فسيفساء طبقية من الحضارات، حيث اكتُشف مؤخرًا نظام زراعي معقد من العصر البرونزي، ومدرجات زراعية دائرية، وأنظمة ريّ تحت الأرض، كلها توحي بأن الإنسان القديم لم يكن فقط ناجيًا من الصحراء، بل مهندسًا لها. الربذة: أثر من الفجر الإسلامي على طريق الحجيج الشهير “درب زبيدة”، تقع مدينة الربذة، وهي مستوطنة إسلامية مبكرة تزخر بآثار عمرانية فريدة تعود للقرن الأول الهجري، منها بيوت الطين، والمخازن، والمساجد، والمعاصر. تُظهر الربذة كيف كانت الحياة اليومية في صدر الإسلام، وكيف أسهمت الجغرافيا والروح في صياغة عمرانٍ يراعي القيم والبيئة معًا. الجماليات: عبقرية الخطّ والبناء والفكر في كل حجرٍ شماليّ جمالٌ ما، وأحيانًا دلالةٌ عميقة. الرسوم الصخرية ليست فقط أشكالًا بدائية، بل شفرات بصرية للغةٍ شعورية اندثرت. القبور النبطية ليست مجرد مساكن للموتى، بل إعلانات عن الثراء والهوية والقوة. القرى الإسلامية المبكرة تعبّر عن تقشّفٍ فنيّ مدهش يجمع بين الجمال والعملية. خاتمة: كنوزٌ لا تزال تُكتشف شمال السعودية ليس بقايا أطلال، بل مستقبل مفتوح للبحث والتأمّل. في كل عام تُكشف مواقع جديدة، وتُعاد قراءة المواقع القديمة بعيون علمية جديدة، بفضل جهود وزارة الثقافة هيئة التراث، ومشروع العُلا، وشراكات عالمية مع جامعات ومراكز أبحاث. لقد خرجت آثار الشمال من الظلال، لتصبح فصولًا حية في كتب العالم عن أصول الإنسان والإبداع.وفي زمنٍ يعيد فيه العالم النظر في علاقته بالتراث، تفتح هذه الأرض أبوابها لا كمتحفٍ مغلق، بل كقصيدةٍ نُحتت في الرمل والجبال، كتبها الإنسان العربي قبل أن يتعلّم الكتابة… وما زالت تبوح. تحتاح هذه الثروة الرقارية للرؤية والقراءة والكتابة من جديد واستلهامها وتطويرها في مجالات التصاميم والفنون اليوم. #د.عصام عسيري أغسطس 1, 2025 أغسطس 1, 2025 أغسطس 1, 2025 أغسطس 1, 2025 أغسطس 1, 2025 أغسطس 1, 2025

شمال السعودية… متحف مفتوح لحضاراتٍ نطقت بالحجر  Read More »

“موت البخيل” للفنان فرانس فرانكن الأصغر

“موت البخيل” للفنان فرانس فرانكن الأصغر (حوالي ١٦٣٥) هذه الغرفة الصغيرة الغريبة ليست مجرد غرفة فوضوية، بل مليئة بعلامات تدل على أن أحدهم على وشك فقدان كل شيء. لقد دخل الموت للتو، وهو ليس كامنًا في هدوء، بل يعزف كوبليه الموت على الكمان. يبدو البخيل، مرتديًا ملابس فاخرة ومحاطًا بالعملات المعدنية والمجوهرات والسجلات، مذهولًا. لسنوات، كان يجمع الثروة، ويبني حياة من الراحة والتحكم. لكن الموت لا يكترث. يأتي حافي القدمين، عظام نحيلة مبتسمة. انظر عن كثب وسترى الوقت نفسه يمضي؛ ساعة رملية تستند عليها قدم “ملك الموت” الهيكل العظمي. الرجل ينفد وقته والعمر يُسرق حرفيًا دون أن يلاحظ. خلفهم، توجد شخصيات أخرى. ما رأيك في رموزها؟ هل هو تنظيف جماعي؟ ثقافة بصرية

“موت البخيل” للفنان فرانس فرانكن الأصغر Read More »

البدايات الفردية

من جدة.. الفن التشكيلي السعودي بذرة البدايات الفردية إلى ثمار المشهد العالمي في قلب البحر الأحمر، وعلى ضفاف التاريخ، نهضت جدة ليس فقط كمدينة تجارية أو ميناء حيوي للمنطقة الغربية، بل كمركز ثقافي بصري شكّل ملامح الحركة التشكيلية السعودية الحديثة. فقد كانت هذه المدينة، بانفتاحها الجغرافي وتعدديتها الاجتماعية، التربة الخصبة التي نمت فيها أولى بذور الفن التشكيلي المحلي، ثم ازدهرت لتنتج مشهدًا فنيًا معاصرًا متنوعًا ينافس عالميًا. الملامح الأولى: نشأة صامتة وبدايات فردية لم تشهد جدة بدايات تقليدية في الفن، بل كانت انطلاقتها من خلال مبادرات شخصية لفنانين عادوا من بعثات خارجية، حالمين بفن حديث يعكس ملامح الهوية السعودية في قوالب تشكيلية عصرية. فمنذ الثلاثينات وحتى ستينيات القرن العشرين، بدأت أعمال فنية تظهر هنا وهناك، ولكن بدون إطار مؤسساتي واضح. كان الرسم حينها يُنظر إليه من منظور اللوحات التجارية والرسوم الصحفية، لا كوسيلة تعبير فكرية أو نقدية. أبرز هؤلاء في تلك المرحلة: محمد راسم العائد من تركيا وأقام أول معرض تشكيلي في السفارات الهولندية والأمريكية منتصف الثلاثينات، ثم عمل بالرسوم الصحفية، جاء بعده في الستينيات الفنان عبدالحليم رضوي، العائد من روما، الذي كسر القوالب الكلاسيكية وأسّس فنا تعبيريا ذو طابع محلي. صفية بن زقر، التي وثّقت الحياة الحجازية في لوحات دقيقة، وأسّست فيما بعد “دارة صفية بن زقر” كأول مؤسسة فنية مستقلة للفن التشكيلي في المملكة. ثم أتت منيرة موصلي وضياء عزيز، عبدالله نواوي، بكر شيخون، طه صبان، فوزية عبداللطيف، هشام بنجابي، أحمد فلمبان، عبدالله حماس، محمد الأعجم ومن تلاهم من فنانين عظام. الثمانينات والتسعينات: التشكل المؤسسي وانطلاقة الصالات شهدت جدة حدثًا مفصليًا في تاريخها التشكيلي بعد تأسيس جمعية الثقافة والفنون ورعاية الشباب وصالة رِدِك وقبة جدة، والتي مثّلت آنذاك ملتقى للفنانين والمثقفين، ومركزًا للتدريب والورش والمعارض في السبعينات. تزامن هذا من ثورة من النقل والمواصلات والطيران الدولي وتخطيط مدينة جدة جماليا في عهد المهندس محمد سعيد فارسي طيلة الثمانينات، التي جعلت جدة متحفا مفتوحا دائما للعرض، وأسهمت الجمعية ورعاية الشباب وبلدية جدة والتعليم في إزدهار الحراك الثقافي بإقامة معارض جماعية وفردية لفنانين محليين. كما بدأت صالات العرض الخاصة في الظهور تدريجيًا، مثل: رِدِك، جدة دوم، رضا، المركز السعودي للفنون، بيت التشكيليين، أتيليه جدة، صالة العالمية، دارة صفية بن زقر، وغيرها من الصالات الثقافية التي كانت قبلة لكل الفنانين السعوديين، فقد مكّنتهم من تجاوز الرقابة التقليدية والانفتاح على التجارب العالمية، من الواقعية التعبيرية إلى التجريدية والمفاهيمية. كما أفرز معهد التربية وأقسام الفنون بالجامعات تخريج دفعات كثيرة ظهرت على الساحة التشكيلية وأثرتها بتجارب مختلفة. الرواد: من بناء الرؤية إلى صياغة الهوية لقد ساهم فنانو جدة الأوائل في وضع الأسس البصرية والثقافية للفن السعودي الحديث، إذ جمعوا بين الوعي الفني الأكاديمي والخصوصية الاجتماعية والدينية للبيئة السعودية. أبرز هؤلاد الذين ظهروا في الستينات والسبعينات: عبدالحليم رضوي: رسم التراث السعودي بروحانية وشاعرية وحدّث الفن وأرسى قواعده الحديثة. بكر شيخون: الذي يقدّم تجارب فنية ذات أبعاد معاصرة. ضياء عزيز ضياء: جسّد الهوية البصرية السعودية بأسلوب كلاسيكي وواقعي حداثي. طه صبان: اهتم بالعمارة الشعبية والحياة اليومية لجدة، مقدمًا لوحات نابضة بالحركة والتاريخ. عبدالله حمّاس: رسم ملامح الحنوب وعموم الحجاز وسائر الجزيرة العربية بأسلوب تجريدي تبسيط مستمد من التراث البصري العريق. من الحداثة إلى ما بعد الحداثة: تحولات معاصرة منذ تسعينيات القرن العشرين، بدأت ملامح الفن المفاهيمي والفنون التركيبية تظهر في جدة، ورافق ذلك انفتاح أكبر على الفن العالمي، وازدهار المعارض الجماعية والفردية. ساعدت المؤسسات الخاصة مثل: مؤسسة المنصورية، مبادرة “21,39” (التي أطلقتها “المجلس الفني السعودي”) على دمج الفن المحلي بالسياق الدولي، بمساهمات جميل للفنون، أثر، حافظ قالري. كما أفرزت هذه المرحلة جيلًا جديدًا من الفنانين الشباب الذين استخدموا الوسائط الحديثة، كأيمن يسري، مهدي جريبي، أحمد ماطر الذي استخدم التصوير الطبي كوسيط تعبيري، سعيد قمحاوي، محمد الغامدي، راشد شعشعي، زهرة غامدي، والعديد من الفنانين الذين وصلت أعمالهم للعالمية، ومراسمهم مليئة بالتجارب الجريئة، يصعب على المقال سرد عشرات الأسماء المهمة والفاعلة ثقافيا في الحراك التشكيلي. جدة في الفضاء العام: مدينة النحت والفن البصري أحد أبرز ملامح جدة الفنية يتمثل في مشاريع النحت في الفضاء العام، حيث تضم كورنيش جدة ومداخل المدينة أكثر من 500 عمل نحتي لفنانين عالميين مثل: هنري مور، سيزار، ميريدا، إضافة لأعمال فنانين عرب وسعوديين، تستحق دراسة مستقلة. وقد وصفها البعض بأنها “أكبر متحف مفتوح في العالم العربي”، ما يعكس إرادة مدنية في دمج الفن بالهوية المعمارية والحضرية. بينالي جدة للفنون الإسلامية، والرؤية الجديدة للفن: جاء إطلاق البينالي لتراث الفن والفن المعاصر في جدة عام 2022 ليؤكد مكانتها كمحور إقليمي للفن، ويجمع عشرات الفنانين من أنحاء العالم. وبدعم من وزارة الثقافة السعودية، وهيئة الفنون البصرية ومؤسسة بينالي الدرعية ترقية البينالي بين التراث الإسلامي والطليعة العالمية في الفن المعاصر، مجسدًا توجهات رؤية المملكة 2030 الثقافية. خاتمة: جدة لا ترسم فقط… بل تصوغ الذاكرة لم يكن الفن في جدة مجرّد استيراد لأساليب غربية أو نسخ لمدارس أجنبية، بل كان أداة وعي وهوية، وسيلة لاستكشاف الذات، وتأريخ التحولات، وتجسيد الذاكرة. من جدران الأتيليهات القديمة، إلى أروقة البيناليات العالمية، تمضي جدة اليوم في رحلة فنية لا تنفصل عن نسيجها الحضري، ولا عن حلمها بالمستقبل، فقد تم إزالة عدة أحياء قديمة وسُتبني فيها جزر ثقافية ودار أوبرا ومسارح وعشرات الصالات الفنية. # د. عصام عسيري يوليو 20, 2025 يوليو 20, 2025 يوليو 20, 2025 يوليو 20, 2025 يوليو 20, 2025 يوليو 20, 2025 يوليو 20, 2025 يوليو 20, 2025 يوليو 20, 2025 يوليو 20, 2025 يوليو 20, 2025 يوليو 20, 2025 يوليو 20, 2025 يوليو 20, 2025 يوليو 20, 2025 يوليو 20, 2025 يوليو 20, 2025 يوليو 20, 2025

البدايات الفردية Read More »

بيلّي جيميسون: صائد الأشباح الذي باع الموت واشترى الخلود

في أعماق مدينة تورونتو الكندية، داخل منزل قديم يخنقه الغموض، عاش رجل جمع بين شغف الأركيولوجيا وجنون المغامرة، رجل كانت غرفه تضج بصمت القرون، وتماثيله تراقبك من حيث لا تدري. اسمه بيلّي جيميسون، تاجر تحف، صائد كنوز، صانع أساطير والمفارقة أن قصته الأكثر إثارة بدأت فعلياً بعد وفاته. بداية غريبة: من العدم لم يولد بيلّي وفي فمه ملعقة من ذهب. في شبابه، عمل في تجارة المعدات الطبية، لكنه سرعان ما ترك كل شيء وراءه، مدفوعاً بهاجس غريب، وهو البحث عن التاريخ المنسي في مزادات العالم السفلي. لم يكن حلمه أن يقتني لوحات أو تماثيل كلاسيكية يتداولها الجميع، بل كان يسعى وراء بالفرادة أو ما سمّاه “بصمات الموتى” رؤوس منكمشة من قبائل الأمازون، أدوات تعذيب من محاكم التفتيش، جماجم مزينة بالنقوش، ومومياوات حقيقية من عصور فرعونية. بدأت شهرته حين اشترى ما تبيّن لاحقاً أنه تابوت الملك رمسيس الأول من متحف مهجور في نياجرا فولز، بعد أن كان مدفونًا في النسيان التجاري لعقود. بإحساسه المرهف تجاه القطع “الحية”، تواصل مع خبراء مصريين، وتأكد أن التابوت يعود بالفعل لأول ملوك الأسرة التاسعة عشرة في مصر. قرر أن يعيده إلى موطنه الأصلي في 1999. ومن تلك اللحظة، أصبح اسمه متداولاً في الصحافة العالمية (الرجل الذي أعاد فرعونًا إلى بلده). مرحلة الرجل الواحد: تحوّل منزله في تورونتو إلى متحف سري مفتوح لأصدقائه وللصحافة المقربة، يعجّ بمئات القطع التي تثير الذهول والرعب في آنٍ واحد. في إحدى الغرف، كانت هناك رؤوس بشرية منكمشة صنعتها قبائل الجيفارو، وبعض الجثث التي نُزعت منها العظام قبل التحنيط تحت الأرض وانكمشت حتي أصبحت بحجم دمى الأطفال، وفي أخرى كرسي إعدام بالكهرباء يعود للقرن الماضي. كل قطعة لم تكن مجرد غرض أثري، بل كانت تحمل حكاية، جريمة، طقسًا وثنيًا، أو وعدًا بالخلود. لم يكن بيلّي جيميسون مجرد جامع؛ كان يعيش مع مقتنياته، يحدّثها، يفهمها، يقرأ ما بين غبارها. قال مرةً في مقابلة مع History Channel: “ما أجمعه ليس الموت، بل صدى الحياة كما أرادها من سبقونا. ” مرحلة نجم التلفزيون في عالم الظلال: أُنتج له برنامج وثائقي بعنوان Treasure Trader على قناة History، كان يرافقه في مغامراته داخل مخازن الموت، ومزادات النوادر، واللقاءات السرية مع جامعي التحف حول العالم. أظهر البرنامج ذكاءه، شغفه، ولحظات التوتر حين يراهن بكل شيء على قطعة واحدة، منها مغامرته باقتراض مبلغ نصف مليون دولار من البنك لشراء تركة عالم مصريات سويسري، 400 قطعة أثرية حصل عليها بشكل قانوني لما كان يعمل في وفد دراسات أثرية بمصر أواخر القرن التاسع عشر، باع بيللي واحدة منها لاحقا بمليونين دولار وسدد البنك، لكن البرامج لم تُعرض سوى حلقات قليلة من مغامراته. في الثالث من يوليو 2011، في اليوم الذي بلغ فيه الـ57 من عمره، سقط ميتًا إثر نوبة قلبية… وكأن القدر اختار أن يُطفئ شمعته في نفس اللحظة التي أُشعلت فيها لصفقة أثرية جديدة لشراء رأس القديس الأسيسي. مرحلة الأسطورة.. ما بعد الموت: بعد وفاته، انهالت دور المزادات على مقتنياته، والتي بلغ عددها آلاف القطع. بيعت مومياواته ورؤوسه المنكمشة، وكرسي التعذيب، وحتى أوراقه الخاصة، بمبالغ ضخمة، وتفرّقت “أرواح متحفه” إلى مقتنين من أميركا، أوروبا، والشرق. لكن جيميسون لم يختف. ظل حيًا في ذاكرة الثقافة الشعبية: -يُستشهد به في حلقات البودكاست عن الرعب والتحف الغريبة. -يُكتب عنه في مجلات الآثار والمغامرة. -وتحولت مقتنياته إلى مواضيع بحث ودراسة، بل وحتى أفلام وثائقية. نهاية ملهمة: تاجر أم فيلسوف موت؟ لم يكن بيلّي جيميسون باحث دفائن أو لصّ قبور، ولم يكن مجرد تاجر غرائب. كان في جوهره شاعرًا يتحدث بلغة الجثث والعظام. رأى في كل جمجمة قصيدة، وفي كل مومياء سؤالًا أبديًا عن مصيرنا. اقتنى الرعب لكنه لم يكن مرعوبًا. زار الظلام لكنه لم يُظلم. ترك وراءه إرثًا ليس من الذهب، بل من الحكايات التي تتنفس من تحت التراب وتفضح أسرار طقوس الموت الغريبة.

بيلّي جيميسون: صائد الأشباح الذي باع الموت واشترى الخلود Read More »

“نمبر وَن” روبرت تشانغ

حارس أمين على كنوز الإمبراطورية الخزفية، في ردهات الصالات المعروضة، حيث يرقص الضوء على أسطح الخزف المصقول، وتتوهج الألوان الزاهية، لا يمكن للمرء إلا أن يشعر بهيبة التاريخ وعمق الفن. هناك، وسط هذه التحف الخالدة، يتجلى إرث رجل كرس حياته لشغف لا يضاهى: روبرت تشانغ نَمبر وَن، أو كما يُعرف في أروقة عشاق الفن، “حارس كنوز الإمبراطورية السماوية”. في أحد أزقة شنغهاي القديمة، كان صبي صغير يرتّب أواني خزفية على رفوف متجر جده. لم يكن يعلم أن يديه المرتجفتين آنذاك ستصافح لاحقًا أهم أعمال أسرة تانغ وسونغ ومينغ، وأنه سيجلس في الصف الأول لكل مزاد كبرى في هونغ كونغ، ملوّحًا برقمه “001”، مبتسمًا بابتسامة من يعرف جيدًا قيمة ما بين يديه. ذلك الصبي كان روبرت تشانغ، الرجل الذي صنع من سوق الفن الصيني إمبراطورية خاصة، لا تحكمها حدود، وتربّع على قائمة أثرى مئة رجل أعمال صيني لمدة نصف قرن متواصلة. وُلد روبرت تشانغ عام 1927 في تشانغتشو بمقاطعة جيانغسو، وسط الصين. كان والده تاجر تحف محترف، وجده نحاتاً فنياً عُرف بدقته وروحه المتأملة. ما إن بلغ الرابعة عشرة، حتى بدأ تشانغ يتعلّم أسرار السوق في متجر العائلة، ليتحول سريعًا من مجرد صبي يرتب الأواني إلى عين خبيرة تستطيع تمييز أصالة القطعة من أول نظرة ولمسة. لكن الحرب الأهلية وتغيّر الأحوال السياسية وتدهور الحالة المادية للعائلة دفعت به إلى مغادرة البلاد، فحمل حقيبة واحدة بها أروع مقتنيات والده وجده و26 دولارًا فقط، وغادر إلى هونغ كونغ عام 1948. هناك، نام على الصحف، وتنقّل بين الأزقة، يتأمل التحف من خلف النوافذ، ويقارنها بخزين ذاكرته المليئة بكنوز شنغهاي. لم يكن يتحدث الإنجليزية، ولم يملك صديقًا، سوى حلم واحد: أن يصبح جامع تحف لا يشبه أحد. بدأ من الصفر، يسرح بتحفه في الشارع بين المتسوقين، حتى أسّس أول متجر له في هونغ كونغ، ثم تلاه أربعة آخرون خلال العقد الأول من استقراره. أتقن فن التفاوض، وبعمل دؤوب بنى شبكة مع زبائن من تايوان، سنغافورة، ثم أوروبا. في الخمسينيات، اشترى تمثالًا خزفيًا من أسرة تانغ مقابل 20 دولارًا فقط. وبعد ثلاثين عامًا، بيع تمثال مماثل بأكثر من مئة ألف. لم يكن روبرت صائد فرص، بل صائد معرفة. في الستينيات، اقتحم عالم المزادات الدولية، متنقلًا بين لندن ونيويورك، وشهد تحوّل الفن الصيني من سلعة هامشية إلى نجم في قاعات كريستيز وسوثبيز. حين افتتحت كريستيز فرعها في هونغ كونغ عام 1986، كان أول من سجل اسمه، واحتفظ منذ ذلك الحين برقمه الخاص “1” في كل مزاد. لم يكن حضوره مجرد بروتوكول، بل طقس فني يمارسه بحماسة المبتدئ وخبرة العارف، ولا يرضى ببيع الأونلاين؛ فهو يسعد بشدة لتصفيق الحضور عند رسو المزاد عليه وإتمام الصفقة ويحتفل بعدها بوجبة عشاء وسهرة موسيقى ورقص ونبيذ فاخر. يُعرف تشانغ بحنكته الاستراتيجية، لا يشتري إلا ما يعرف قيمته، ولا يبيع إلا عندما يعلم أن القطعة ستُقدّر كما تستحق، ولا يهين روائعه عند تدهور الأسعار. وقد تحوّلت بعض قطعه إلى أساطير مزادات، مثل وعاء “فيلانغايا” من أسرة تشينغ، الذي بيع عام 2006 مقابل 151.3 مليون دولار هونغ كونغي. كل قطعة اقتناها كانت تحمل جزءًا من ذاكرته، يختبر فيها الزمن والصنعة والذوق. يقول: “أنا الوحيد الذي يشتري سيراميك بعشرين دولار ويبيعه ب 134 مليون دولار”. لم يكن جامع تحف فقط، بل إن قصته ليست مجرد حكاية جامع تحف، بل هي ملحمة عشق للفن الصيني وكفاح من أجل جمع نفائس الجمال وروائع الإبداع، توّجت بتأسيس صرح تعليمي فريد من نوعه: مؤسسة الخزف الصيني روبرت تشانغ. وقد تجلى هذا التقدير الكبير لشخصيته وعمله في مقالات صحفية صينية مرموقة، تناولت مسيرته بإعجاب وإجلال، معتبرة إياه جسراً حياً يربط الماضي العريق بالحاضر والمستقبل. ولد روبرت تشانغ في عائلة عريقة ذات جذور عميقة في عالم التجارة والفن. منذ نعومة أظفاره، أُحيط بجماليات الخزف الصيني، وبدأ ولعه يتشكل مع كل لمسة لأواني البورسلين المزخرفة، ومع كل قصة تُروى عن حكايات الأباطرة والفنانين الذين أبدعوا هذه الكنوز. لم يكن شغفه مجرد هواية عابرة، بل تحول إلى رحلة استكشافية عميقة في تاريخ وثقافة الصين، قادته إلى أبعد الزوايا لجمع أرقى وأندر قطع الخزف. ولم يكن تشانغ مجرد جامع عادي، بل كان باحثًا نهمًا، يلتهم المراجع والكتب التاريخية، ويقضي الساعات الطوال في دراسة تقنيات الصناعة، وتتبع خطوط التطور في الفن الخزفي عبر العصور. لقد بنى تشانغ لنفسه مكتبة ضخمة تضم مئات المجلدات والمخطوطات النادرة عن الخزف الصيني، مما جعله مرجعًا عالميًا في هذا المجال. ولم يتوقف عند المعرفة النظرية، بل غاص في عمق الحرفية، فزار أفران الخزف القديمة، وتحدث إلى الحرفيين المهرة، محاولاً فك شفرات الأسرار التي توارثتها الأجيال.

“نمبر وَن” روبرت تشانغ Read More »

إنعام سعيد.. رسّامة الحياة الهامشية

في ركنٍ هادئ من تاريخ الفن المصري، حيث تضيء أضواء نجوم الإبداع كثيرًا، توجد أسماء الجذور العميقة لشجرة الفن الحديث والمعاصر، لا تُرى من بعيد، لكنها تمسك الأرض بثبات وتثمر الجمال. من بين هذه الأسماء، تبرز الفنانة إنعام سعيد كصوت تشكيلي فريد، استطاع أن يُنطق الرصاص على الورق، ويُحيل هوامش الحياة الإنسانية إلى سردٍ بصريّ هادئٍ ومهيب. سيرة فنّانة… زرعت الفن في الصمت: وُلدت الفنانة في بداية القرن العشرين، وجاءت من خلفية تؤمن بقيمة التعليم والثقافة، فانطلقت مبكرًا إلى بعثة لبريطانيا 1926، حيث درست الفن في وقتٍ كانت فيه هذه الخطوة نادرة، بل ثورية. حصلت على دبلوم هيئة التعليم البريطاني في الرسم عام 1929، دبلوم جرافِك عام 1931، وشهادة تدريس الرسم والفنون، ما أهلها للعمل كأستاذة فن في المعاهد العليا. عادت إلى مصر، لا لتستكين، بل لتقود الحراك. أسهمت في تأسيس قسم الفنون الجميلة في المعهد العالي للمعلمات، وتقلّدت فيه منصب “وكيلة المعهد”، وساهمت في تشكيل وعي فني نسائي ظلّ ممتد الأثر. أن تكون فنانة مصرية في الثلاثينيات، ومُعلّمة للأخريات، يعني أنك تحملين أكثر من فرشاة، تحملين رسالة. مكانة ثقافية مكرّسة للصمت النبيل، فلم تكن إنعام سعيد مجرّد رسّامة موهوبة، بل واحدة من الأصوات النسائية الرائدة والمؤسسة للحركة التشكيلية المصرية. انخرطت في جماعة “الفن والحياة” بقيادة الفنان حامد سعيد، تلك الجماعة التي مزجت بين الفن والحياة اليومية، وحاولت استكشاف الجمال في المألوف والبحث في خفايا الحياة. كانت عضوًا فعّالًا في جمعية محبي الفنون الجميلة جيل المؤسسين، وشاركت في معارض مصرية عديدة. وقد نالت ميدالية صالون القاهرة للفنون عام 1934، ثم ميدالية اليوبيل الذهبي لكلية التربية الفنية عام 1989، اعترافًا بفضلها الكبير في تكوين ذاكرة مصر البصرية والتعليمية. الواقعية المتأملة: الفن حين يصبح مرآةً للكرامة. في لوحاتها البارزة التي تعود إلى أواخر حياتها، رسمت إنعام سعيد امرأة كبيرة، بوجهٍ متعب، وجسدٍ ينوء بثقل الأيام. ترتدي جلبابًا ريفيًا، وغطاء رأسٍ بسيط، وتقبض بيدٍ على إبريق فارغ كأنما هو ما تبقّى لها من العالم. الخطوط الدقيقة والمدروسة، والظلّ الذي يزحف على ملامحها، لا يقدمان مشهدًا من الشفقة، بل مشهدًا من التأمل الهادئ في قسوة الحياة وكرامة الكفاح الصامت. في عمل آخر، تُجسّد سيدة تجلس على مقعد خشبي مهترئ، تحتضن موقدًا معدنيًا، وكأنها تحتضن الزمن ذاته. الإضاءة هنا تنبع من داخل الشخصية، لا من الضوء الخارجي. العينان الغائرتان، والوجه المنحني، والأصابع المتورمة، السلة والكرتون والموقد فارغ بلا طعام، كلها تفاصيل لا يمكن قراءتها إلا من خلال فنانة تعرف جيدًا معنى الكدح، ومعنى أن تكون امرأة في عالمٍ قاسٍ. أما ذروة المشهد التشكيلي فتأتي في اللوحة التي تُجسّد امرأة بائعة خضروات تجلس وسط السوق، محاطة بالصناديق والخضروات، وتحدق في فراغ الشارع. خلفها، مئذنة أمامها تتكدّس مبانٍ قديمة متداعية، نوافذها مفتوحة على المجهول، بينما يتسلل ضوء خفيف كأنه أملٌ مشوش. هنا تكمن عبقرية إنعام سعيد؛ جعلت من هذه المرأة رمزًا لقاهرة لم تكتبها الصحف، بل عاشها البسطاء في صمت. قلم رصاص: في أعمال إنعام سعيد لا نجد محاولة لاستعراض المهارات، بل التزامًا هادئًا بالجمال البسيط، بالكائن الهامشي، بالإنسان المضاف إليه أو المفعول به. أجساد متعبة، أنامل متشققة، نساء يجلسن على أرصفة لا تراها الكاميرات، لكنها أصبحت عبر عيني إنعام جزءًا من ذاكرة الوطن. استخدمت قلم الرصاص كما لو أنه خيطُ فضة، خفيف لكنه جارح. تضع الخط لا لتبني الشكل، بل لتعيد تشكيل روح الإنسان. الظل والنور يتحاوران دون صخب، والملامح لا تبالغ في التعبير، لكنها تفيض بالأثر. من النور للظلام: رغم أن الفنانة لم تسعَ خلف الشهرة، فإن إرثها الفني والتربوي جديرٌ بأن يُعاد اكتشافه. فنانة ومُعلمة، واقعية وصامتة، مؤمنة بقوة الفن على التعبير عن الحياة اليومية. في لوحاتها، نجد مصر الأخرى، مصر العَرَق والخبز، الأرض والنهر، مصر الأمهات المنسيات، والمساءات الخافتة. لقد كانت إنعام سعيد واحدة من أولئك الذين يُشبهون الأشجار الصامتة، لا تُصدر صوتًا، لكنها تمنح ظلًّا وثمارًا لا تُنسى. الأعمال مقاس ٤٠/٥٠سم # مقتنيات_خاصة

إنعام سعيد.. رسّامة الحياة الهامشية Read More »

جون قيج… حين تحدّث اللون بلغة الحضارات

في تاريخ المعرفة، قلّما نلتقي بعالم أعاد تعريف مفردة شائعة في حياتنا اليومية كما فعل المؤرخ البريطاني جون قيج (John Gage) مع “اللون”. هذا المفكر، القادم من أروقة جامعة كامبردج، لم يكن مجرد باحث في الفن، بل كان مؤرخًا لواحدة من أعقد لغات البشرية: اللون بوصفه رمزًا وثقافةً وسؤالًا فلسفيًا. في زمنٍ بات اللون فيه أقرب إلى قرارات تسويقية أو ذوق بصري لحظي، جاءت كتب قيج كدعوة للتأمل العميق: هل نرى اللون كما هو؟ أم كما تعلّمت أعيننا أن تراه؟ لون بثلاثة أبعاد: فن، علم، ومعنى يُعد كتابه الأهم “اللون والثقافة: من العصور القديمة إلى التجريد” (Color and Culture) من أبرز ما كُتب في هذا الحقل. لا يقدّم فيه قيج دراسة عن الألوان بوصفها طيفًا فيزيائيًا أو تقنيات فنية فحسب، بل كـ مرآة للتاريخ البشري: من أقمشة الكهنة، إلى دروع المحاربين، إلى أيقونات القديسين، وحتى أعلام الثورات. أما في كتابه الآخر “اللون والمعنى” (Color and Meaning)، فقد فتح بوابة الفهم الفلسفي والرمزي للون، فمثّل اللون الأحمر مثلًا ليس فقط كصبغة دموية، بل كلون الملوك والآلهة والعقوبة والحرب… حسب السياق والحضارة. بين نيوتن وغوغان… اللون في مسرح التاريخ قسّم قيج فهم اللون إلى ثلاث قوى متشابكة: 1. اللون كظاهرة فيزيائية: كما درسها نيوتن وعلوم البصريات. 2. اللون كتقنية تشكيلية: كما تعامل معه الرسامون في لوحاتهم. 3. اللون كرمز ثقافي: كما حُمّل معاني مختلفة في الأديان والأساطير. في هذا السياق، درس قيج كيف عبّر بول غوغان عن التمرد بلون الجلد الداكن، وكيف رأى موندريان في الأصفر والأحمر والأزرق خلاصات فلسفية، وكيف حملت جداريات مصر القديمة دلالات لونية دقيقة تشير إلى العقيدة والمكانة الاجتماعية. فكر اللون… ما بعد العين: ما ميّز قيج، أنه لم يكتب للفنانين فقط، بل للمثقفين والفلاسفة والمؤرخين وحتى علماء الأعصاب. فالألوان، بحسب أطروحاته، لا تدخل إلى عقولنا محايدة، بل مثقلة بثقافاتنا وتجاربنا. الأبيض في أوروبا رمز للزفاف، بينما في الصين رمز للموت. الأسود في الغرب يعني الحداد، وفي اليابان يدل على الشرف. بهذا الطرح، جعل قيج اللون أداة تحليل حضاري لا تقل شأنًا عن اللغة أو المعمار. إرثٌ أكاديمي لا يبهت: تُدرّس كتبه في أقسام الفن والتصميم والفلسفة حول العالم. وظلت بحوثه تُلهِم جيلاً من الباحثين لفهم العلاقة بين اللون والهوية والسلطة والجمال. وترجمت بعض أعماله إلى لغات متعددة، كما احتفى به متحف فيكتوريا وألبرت في لندن، ومتاحف كامبردج، وكُتب عن مشروعه الفكري في مجلات أكاديمية مرموقة مثل Art Bulletin و The Burlington Magazine. أكثر كتبه شيوعا: 1. Color and Culture: Practice and Meaning from Antiquity to Abstraction (اللون والثقافة) أهم كتبه، صدر عام 1993. يُعدّ مرجعًا أساسيًا في تاريخ اللون. غطى علاقة اللون بالفن والدين والفلسفة والعلم من العصور القديمة إلى الحداثة. تناول مفاهيم اللون عند المصريين، الإغريق، القرون الوسطى، عصر النهضة، ثم الانتقال إلى التجريدية. 2. Color and Meaning: Art, Science, and Symbolism (اللون والمعنى) يتعمق في معاني الألوان عند الفنانين والعلماء. ناقش رمزية اللون، تأثره بالضوء، تقنيات مزجه، دلالاته الثقافية. عرض دراسات حالة لفنانين مثل تيرنر، غوغان، موندريان وغيرهم. 3. The Art of Colour: The History of Colour in Art (فن اللون) كتاب مصوّر، أكثر تبسيطًا بصريًا، يُظهر تطبيقات اللون في الأعمال الفنية الكبرى. مفيد للفنانين والطلبة لفهم كيف تغير استخدام اللون عبر العصور. خاتمة: حين نقرأ جون قيج، ندرك أن اللون لم يكن يومًا مجرد ما تراه العين، بل هو ما تراه الذاكرة والمعتقد والهوية. لقد منحنا أدوات لرؤية اللوحات والعمارات والملابس والأعلام برؤية أكثر تعقيدًا وثراءً. ومن خلاله، بات بوسعنا أن نفهم كيف صارت البشرية ترسم ذاتها باللون. في النهاية، رحل جون قيج في 2012 بعمر 73 سنه انكب في أغلبها على دراسة اللون من عدة زوايا علمية وإنسانية. ترك إرثا ملهما؛ كتب وأبحاث ومقالات ومحاضرات تفتح آفاقا واسعة للبحث أبعاد اللون محليا سوسيولوجيا، ثقافيا، سيكلوجيا…. وووالخ من مناظير بحثية. الرابط التالي يسرد مزيدا من سيرته وإنجازاته. John Gage: Art historian who established himself

جون قيج… حين تحدّث اللون بلغة الحضارات Read More »

عبدالحليم رضوي… حين رسمت مكة بريشة أوروبية 

في زمنٍ لم يكن الفن التشكيلي فيه أكثر من زينة هامشية للغاية في الحياة السعودية، وُلد طفلاً من أزقة مكة المكرمة يحمل في يديه الفحم والأقمشة، ويرى في البلاط والزخارف أكثر مما يرى الناس في الكتب. ذلك الشاب، الذي تحدّق في الأشكال قبل الكلمات، وتعلّم من المآذن والناس أكثر مما تعلّم من الدروس، سيغدو لاحقًا أحد مؤسسي الفن التشكيلي الحديث في المملكة، وأول من رسم مكة بلغة أوروبيةٍ، دون أن يُفرّط في ملامحها الأصلية. مكة… حيث تبدأ الحكاية: ولد عبدالحليم حمزة رضوي عام 1939 في قلب مكة، أم القرى التي هي مسرحًا هائلًا للرموز البصرية الإسلامية، بتنوّع سكانها وزوّارها، وبكل زخارفها، وخطوطها الهندسية، وتداخلاتها الروحية. ترعرع في بيئة محافظة لم يكن فيها للفن أهمية شرعية أو اجتماعية. لكنه، ومنذ صباه، كان يرى الجمال في بلاط الساحات، وفي النور المتسلل من المشربيات، وفي الحرف العربي المنقوش على جدران المساجد. كان الفن عنده فطرة، لا قرارًا. من مكة إلى روما… الرحلة الكبرى: لم تكن روما في الستينيات مجرد مدينة بالنسبة للرضوي، بل كانت مختبرًا عالميًا لصياغة الحداثة. هناك، التحق بأكاديمية الفنون الجميلة بروما، لينهل من معين المدارس الغربية: التعبيرية، التكعيبية، التجريدية، السريالية، وكل ما كان يُنتج تحت مظلة “الما بعد” في أوروبا. لكنه لم يكن مقلّدًا، بل مبتكرًا. أدخل الخط العربي والزخرفة الإسلامية في تكوينات سريالية تارة، وتكعيبية وتجريدية تارة أخرى. زاوج بين الروح الشرقية والصرامة المادية الغربية، وخرج بأسلوبه الذي سيُعرف به لاحقًا، حيث يتحوّل الرمز الإسلامي إلى عنصر حداثي، لا مجرد تراثي. في أحد معارضه الأولى في روما، كتب ناقد فني إيطالي: “لوحاته تبدو كأنها صلوات بصرية… إنه يرسم الشرق كما لا يعرفه الغربيون، لا بالصحراء والتمائم، بل بالخطوط والرموز والصفاء المعماري.” العودة إلى جدة… التأسيس والمقاومة: عند عودته إلى السعودية بعد أن أنهى دراسته، وجد أن المجتمع لا يزال يراوح بين الريبة والرفض تجاه الفنون البصرية. لكنه لم يهادن، واستفاد مع حركات التحديث الثقافي في مجالات الكتابة والأدب والموسيقى والطرب لذاك الجيل. أسس قسم الفنون التشكيلية في جمعية الثقافة والفنون، ودعا إلى تعليم الفن، تنظيم المعارض، ودمج الفن بالتنمية. لم يكن عبدالحليم يملك سلطة ثقافية، لكنه امتلك سلطة الكتلة واللون، التي تفرض هيبتها على المكان. نفذ جداريات ومجسمات ضخمة في مؤسسات حكومية، جامعات، مطارات، وواجهات عامة، أبرزها جدارية مطار جدة وبعض ميادينها، التي تمثل مزيجًا بين الزخرفة الحجازية والحداثة العالمية. كان الرضوي غزير الإنتاج، شارك في عشرات المعارض الفردية والجماعية محليا وعربيا وعالميا، منها بينالي البندقية الذي يُعد الأهم عالميا، ورفع اسم السعودية في العديد من المحافل الدولية، في زمن لم تتاح فرص فيه إلا للقليل من المبدعين أن تعبر الحدود. إرثه… اللون الذي لا يجف: لم يكن عبدالحليم فنانًا نخبويًا، بل رسامًا للروح السعودية كما حلم بها، لا كما وُصفت في كتب المستشرقين، فقد تنقّل بين مدنها مترامية الأطراف ومتنوعة الثقافات. كانت لوحاته مزدحمة بالرموز، لكنها خالية من الضجيج. لا يصرخ فيها اللون، بل يتنفس. لا تُرعبك كثافتها، بل تُقنعك. حتى اليوم، لا يمكن الحديث عن الحركة التشكيلية السعودية دون المرور به. فهو ليس مجرد رائد، بل هو جسر بين زمنين، ولغة بين ثقافتين، ورمز لفنان آمن أن الفن لا يُزهر إلا في بيئةٍ يُروى فيها بالحرية. رحل عبدالحليم رضوي في عام 2006، لكن أعماله لم ترحل. بقيت شاهدة على زمن التأسيس، وشاهدة على المعركة الصامتة التي خاضها، معركة أن يكون الفن جزءًا من الهوية ومعبّرا عنها، لا ترفًا منها. اللغة التشكيلية في أعمال الرضوي: في تتبع المسار البصري لعبدالحليم رضوي، نجد أننا أمام فنان لم يكن يرسم المشهد، بل يكوّنه من الداخل. لم يكن أسير الشكل، ولا تابعًا لمدرسة، بل مؤسسًا لـ”نظام بصري” متكامل ينبثق من تراثه لكنه لا يُقيد به. 1. تكويناته… هندسة الروح والذاكرة: في أعماله، يتكرّر”المثلث، المربع والدائرة”، و”الخط العمودي”، لكنها لا تُستخدم كأشكال هندسية مجردة، بل كعناصر تنظم العلاقة بين مكونات الداخل والنظرة من الخارج، بين المركز والهامش، بين الأرض والسماء. تُذكّر بعض أعماله بنوافذ المساجد، أو بشبابيك البيوت الحجازية، لكن هذه الاستدعاءات ليست توثيقية، بل حركية؛ تتكرر العناصر بصيغة إيقاع بصري، يُدخل المتلقي في حال من التأمل والتنقل داخل فضاء اللوحة. تكوينه لا يعتمد المنظور الغربي التقليدي، بل على منظور “مركزي – زخرفي”، حيث كل العناصر تدور حول مركز رمزي، غالبًا ما يكون مشعًا أو محاطًا بكتل لونية كمدار فلكي سرمدي، وبعضها كطواف روحي بالبيت العتيق. 2. اللون عند رضوي… طاقة لا وصف: اللون في لوحاته ليس تلوينًا، بل نبض روحي. الأزرق عنده ليس ماءً ولا سماءً، بل امتدادًا لبرودة الروح. الذهبي ليس زينةً بل طيفًا إسلاميًا يُحيل إلى قباب الذهب في العمارة المكية. أما الأحمر، فهو صوت داخلي؛ لا يغضب، بل يُصلي. يميل إلى الألوان الصريحة (البنفسجي، التركوازي، الأحمر) دون مزج أو تدرج سطحي. وهذا يعود لاقتناعه بأن اللون قوة مستقلة، لا تابع للشكل. لوحاته لا تُقاس بدرجة الضوء والظل، بل بوزن اللون في التكوين. أحيانًا تكون المساحة الصغرى (خطًا زهريًا أو أصفراً) أقوى من الكتل اللونية المهيمنة، لأنه يعرف كيف يوظّف التوتر البصري في خدمة الانفعال الروحي. 3. الخط العربي… من نص إلى شكل: لم يتعامل رضوي مع الخط العربي بوصفه جملة تُقرأ، بل بوصفه بنية بصرية تُرى وتُشعر. كان يحذف المعنى اللغوي ليُعيد بناء المعنى الشعوري. يتحوّل الحرف عنده إلى مئذنة، إلى زينة، إلى صدى صوت داخلي. ولم يستخدم الخط والكتابة بأسلوب الديكور كما فعل بعض معاصريه، بل جعله أداة تشكيليّة تحمل في ذاتها بعدًا رمزيًا، فتتكرّر الحروف لا لتُعبّر، بل لتبني إيقاعًا بصريًا يُقارب الشعر الصوفي. 4.الرقص والموسيقى في أعماله: رسم الرضوي في عدة أعمال ووثّق الرقصات والعرضات واللعب الشعبي من مختلف أرجاء المملكة الثرية بالتنوّع الترفيهي الثقافي، بطريقة تعبيرية تبرز فيها الإيقاعات والحركات المثيرة في هذا اللون من فنون الرقص. 5. من اللوحة إلى الجدار: اتساع الجسد البصري: في انتقاله من اللوحة الصغيرة إلى الجدارية، لم يفقد رضوي السيطرة على التكوين. بل العكس، الجدارية كانت عنده امتدادًا عضويًا للوحة، لا مجرد تضخيم لها. الجدارية عنده ليست عرضًا للبراعة، بل جغرافيا للانتماء البصري. يملأ الحائط كما يملأ الفنان روحه، فلا يترك مساحة فارغة إلا لتُشير إلى الغياب، ولا يملأ مساحة إلا وتكون عامرة بالمعنى. ختاما، تجربة عبدالحليم رضوي ليست مجرد مزيج بين الحداثة والتراث، بل تجربة تركيب بصري معقدة أعادت تعريف الزخرفة، وأعادت الاعتبار للرمز الإسلامي في زمن كانت فيه الحداثة تُساوي القطيعة. لقد نجح في بناء فن لا يقلد الغرب، ولا ينعزل عنه، بل يُحاوره بنديّة. وكان هذا جوهر مشروعه، ليس أن يكون فنانًا سعوديًا ناجحًا، بل أن يكون صاحب لغة خاصة، ناطقة بجمالٍ لا يمكن

عبدالحليم رضوي… حين رسمت مكة بريشة أوروبية  Read More »

التشكيلي السوداني الشيخ إدريس الضو

شيخ يعزف باللون سيمفونيات مرئية في رحاب الفن التشكيلي العربي يقف اسم الفنان السوداني الشيخ إدريس عبد الرحمن الضو شامخًا كقامة فنية أثرت المشهد الإبداعي بعمق وحس أصيل. وُلد هذا المايسترو للون في خريف عام 1956 بقرية “الجديد خليف” بولاية الجزيرة السودانية، حيث ترعرع وتشرب من معين أرض خضراء يلفها النيل، ممتصًا صفاءها وجمالها وتنوع ألوانها، ومستلهمًا من طيبة أهلها وعمق ثقافتهم ما شكل اللبنة الأولى لشخصيته الفنية الفذة. تكوين الروح والفنان: نشأة وتجلي تجلت موهبة Alshaikh Idris Aldaw الفطرية منذ طفولته المبكرة؛ فكان يشار إليه بالبنان بين أقرانه لتميزه في الرسم والتلوين وصناعة المجسمات. لم تكن هذه مجرد هوايات عابرة، بل كانت إشارات واضحة لمسار فني مقدر. كان التحاقه بمدرسة حنتوب الثانوية، إحدى الصروح التعليمية العريقة في السودان، نقطة تحول حاسمة. ففي كنف جمعية الفنون الجميلة بالمدرسة، وتحت رعاية الفنان القدير الأستاذ عبدالحميد الفضل، وجد الشيخ إدريس مرشده ومعينه. بتشجيع وتوجيه من أستاذه، ترسخت لديه فكرة التوغل في دراسة الفن أكاديميًا، ليلتحق بعدها بكلية الفنون الجميلة والتطبيقية بالخرطوم، متخرجًا منها عام 1978م بتخصص الطباعة والتصميم وكان من أبرز خريجيها وأكثرهم تفوقا ونشاطا. هذا التكوين الأكاديمي لم يكن مجرد شهادة، بل كان صقلًا لموهبة خام، وفتحًا لمداركه على آفاق واسعة من الجمال والإبداع. لم يمكث الشيخ إدريس طويلًا في السودان بعد تخرجه، فكانت وجهته التالية إلى المملكة العربية السعودية، حيث استقر في مدينة جدة الساحرة. هناك، عمل رساما ومصمما فني في الوكالة العالمية للإعلان ومطبعتها الراقية، وامتدت إقامته لأكثر من ثلاثة عقود، رافق فيها جيل الرواد وحتى الجيل الحالي. خلال هذه الفترة، لم تنفك جدة عن إلقاء سحرها على مخيلته، لتضيف إلى مخزونه البصري القادم من النيل أبعادًا جديدة من فن العمارة الساحلية، ألوان الأسواق، حياة الناس وروح البحر. هذا التلاقح الثقافي بين الجذور السودانية العميقة والبيئة العربية النابضة بالحياة في جدة، صاغ رؤيته الفنية الفريدة من ممارساته الكثيرة. شغفه المتنامي بالرسم والتلوين دفعه في نهاية المطاف للتفرغ التام للفن التشكيلي بعد تقاعده عام 2006، ليُبحر في عالمه الخاص دون قيود، انتقل للرياض آخر حياته وتوفي بها عام 2024م. العزف بالألوان: الانطباعية بروح سودانية يُصنف النقاد أعمال الشيخ إدريس غالبًا ضمن المدرسة الانطباعية، لكنه هو نفسه يفضل أن يرى فنه تحليقًا حرًا لأفكاره وأحاسيسه. إن أعماله ليست مجرد محاكاة للواقع، بل هي تجليات حسية تتناغم وتتراقص فيها الألوان والضوء، مستحضرةً شاعرية جوهر اللحظة بأسلوبه التعبيري المميز. يُعتبر اللون سيد الموقف في لوحات الشيخ إدريس؛ فألوانه الثرية ليست مجرد صبغات نثرية، بل هي قصيدة من نبض الحياة، وأصداء الفرح، وهمسات الحنين. إنها ألوان زاهية، نقية، وشفافة، تحتفل بالطبيعة في أبهى صورها، وبالحياة في أعمق تفاصيلها. يستخدم الشيخ الفرشاة بضربات انطباعية سريعة ومتسعة، مما يضفي على أعماله حيوية ديناميكية، وكأن كل عنصر في اللوحة يشارك في رقصة كونية. كما يولي الفنان اهتمامًا بالغًا بالضوء؛ فهو ليس مجرد عنصر إنارة، بل قوة كاشفة تمنح اللوحة إشراقًا وبهجة، وتبرز أدق التفاصيل وتمنحها عمقًا وبعدًا. تتنوع ثيمات أعماله بتنوع مصادر إلهامه، من الطبيعة والبحر وصفاء النيل ومراسي قواربه الحالمة، إلى بهجة حفلات الأعراس والرقصات الشعبية ومناظر الشارع والأسواق والحياة العامة التي تتخللها تفاصيل غنية بالألوان والحركة. للمرأة حصة وافرة في أعماله، فهي في عينيه ليست مجرد شكل، بل هي تجسيد للجمال بحد ذاته، بكل حركاتها وسكناتها وأزيائها الملونة. حتى الخيول، تظهر في لوحاته برومانسية وحس مرهف، كأنها تستعد للمداعبة والملاطفة في مراعٍ خضراء تتباين مع ألوانها الناصعة. ورغم ميله للانطباعية، فقد استكشف الشيخ أيضًا التكوينات الشكلية والهندسية، ودمج فيها الرموز والحروف العربية، في محاولة لتقديم لغة بصرية تجمع بين التعبيرية والتجريدية. تريلوجيا بصرية: نتأمل في ثلاث لوحات تبرز تنوع أسلوبه وعمق رؤيته: لوحة “همسات الأزقة” (مشهد المدينة): تجسد هذه اللوحة الساحرة قدرة الشيخ إدريس على التقاط جوهر الحياة اليومية بأسلوبه الانطباعي الخاص. نرى فيها أزقة مدينة عتيقة، حيث تتراصف المباني بلونها الترابي، وتتخللها أبواب ونوافذ باللونين الأخضر والأزرق الغامق. يمشي مجموعة أشخاص في وسط اللوحة، أحدهم يرتدي ثوبًا أبيض فضفاضًا يبرز بوضوح، بينما يظهر آخرون بملابس ذات ألوان دافئة كالبرتقالي والأحمر والبني. الضربات السريعة والعريضة للفرشاة تمنح المشهد حيوية وحركة، وتلغي التفاصيل الدقيقة للأشخاص، لتركز على الانطباع العام للمشهد وديناميكيته. الضوء يتخلل المساحات، مخلفًا ظلالًا خفيفة تزيد من عمق اللوحة دون أن تطغى على الألوان الزاهية. إنها دعوة للتأمل في جماليات البيئة وحياة الناس اليومية، حيث تكمن الروح في تفاصيل بسيطة تكتسي ألق اللون ونقاء الضوء. لوحة “روحية الخط والرمز”: تأخذنا هذه اللوحة الضخمة إلى عالم آخر من إبداعات إدريس، عالم أكثر تجريدًا وفلسفة. تتشكل اللوحة من تكوينات بيضاوية ودائرية متواصلة، وتضم في طياتها رموزًا وحروفًا عربية، يبدو أنها تشكّلت بقاعدة خط هندسي من ابتكاراته. الألوان المنسجمة هنا أكثر هدوءًا وتناغمًا، تتراوح بين الدرجات الترابية، الأزرق السمائي، التركوازي والأخضر الزيتوني، مع مساحات واسعة من الأبيض ولمسات خفيفة من الأحمر والأسود. هناك إحساس بالعمق والطبقات، حيث تبرز بعض العناصر وتتراجع أخرى. هذه اللوحة وأخواتها التي قدّمها حافظ قالري في معرض فردي للفنان بجدة، تعكس جانبًا آخر من شخصية الشيخ إدريس، جانبًا تأمليًا يبحث عن الجمال في تجريد الشكل وتكثيف جمالية ورمزية اللون. إنها حوار تجريدي راقٍ بين الخط واللون والشكل، يستحضر روح الفن الإسلامي بطريقة معاصرة ومبتكرة، ويدعو المتلقي لفك شفرات الدلالات الخفية داخل العمل. لوحة “زوج آتً من أفريقيا” (بورتريهات stylized): مفعمة هذه اللوحة بقوة وسخونة التعبير وبأسلوب فريد في تناول البورتريه. نرى وجهين، يغلب عليهما دفئ اللون البرتقالي المائل للبني، وكأنهما يمثلان جزءًا من هوية جماعية. الوجوه ذات أشكال هندسية ممدودة، مع عيون كبيرة تحدق في المتلقي وتدمجه معهما في المشهد، وشفاه مفتوحة حمراء تضفي لمسة من الحيوية. خلفية اللوحة غنية باللون الأحمر ودرجاته الساخنة، مع تفاصيل وخطوط أفقية ورأسية تذكر بزخارف النسيج أو الرموز الأفريقية. الألوان الداكنة في الأسفل تمنح الزوج بروزًا وتحديدًا، وثقل واتزان لعموم مفردات العمل. تعكس هذه اللوحة تركيز الفنان على العنصر الإنساني، ولكن بأسلوب لا يعتمد على الواقعية الدقيقة بقدر ما يعتمد على التعبير عن الجوهر والمشاعر عبر التبسيط والتكثيف. إنها دعوة للتأمل في العلاقة بين الشكل والروح، وفي كيفية انتقال المشاعر عبر الألوان والخطوط. مكانته الثقافية وإرثه الخالد: لا تقتصر مكانة الشيخ إدريس على كونه فنانًا تشكيليًا مبدعًا فحسب، بل تمتد لتشمل كونه ركيزة من ركائز الحركة التشكيلية السودانية والعربية. لقد استطاع، عبر أعماله، أن يحطم عزلة الفن، مؤمنًا بأن أي مبدع يجب أن يأخذ في اعتباره تفاعل المتلقين مع إبداعه. مشاركاته العديدة في المعارض المحلية والدولية لم تكن مجرد عروض لأعماله، بل كانت جسورًا لنشر الثقافة السودانية والعربية، وتعريف العالم بجماليات التعبير بالهوية والتراث. الشيخ إدريس

التشكيلي السوداني الشيخ إدريس الضو Read More »

سليمان باجبع

هوية فنية أصيلة بروح معاصرة يُعد الفنان التشكيلي السعودي سليمان باجبع من أبرز الأسماء التي استطاعت أن تمزج بين الجذور الفنية المحلية وروح الحداثة التعبيرية، عبر مسيرة غنية امتدت منذ السبعينات وحتى اليوم. تنقل باجبع بين حركات الفن الحديثة والمعاصرة من الواقعية والتاثيرية والتعبيرية ومرّ بالتكعيبية ووصولا للتجريدية بأسلوب خاص جعله ذا أسلوب مستقل في الرؤية والتكوين والطرح الفني. ورغم تواضعه وبُعده عن الصخب الإعلامي، فقد ظل مؤثرًا، كفنان ومعلم ومثقف، في المشهد التشكيلي السعودي والعربي. نُفذت هذه اللوحة بأسلوب تكعيبي بخامة الأكريليك على قماش الكانفاس (30×40 سم)، وهي تصور وجهًا نسائيًا مبسطًا، يتداخل فيه التعبير الرمزي مع التكوين الهندسي، في بنية تشكيلية تجمع بين الحدّة والتناسق، وبين الشاعرية والحزن المكثف. الوجه يتجزأ إلى قسمين متقابلين سيميتريا كطبيعته، تتناوب فيهما الألوان الحارة والباردة، ما يعكس ثنائية نفسية وحالة وجدانية مركبة. العيون الواسعة الداكنة، وهي محور التعبير في اللوحة، تعكس تأملًا ساكنًا وموجعًا، ويتدلى من إحداها دمعة زرقاء، في تعبير مباشر عن الأسى. الخلفية محملة بمثلثات متكررة، تُشبه الأرابيسك الهندسي، لكنها في صياغة حديثة، ما يربط هذا العمل بالتراث الإسلامي والزخرفة العربية، دون أن يكون توظيفًا مباشراً. بتحليل العمل بصريا حسب النقاط التالية: 1. البنية التركيبية والتكوين يعتمد باجبع على تقسيم الوجه باستخدام خطوط سوداء كثيفة تحدد المساحات، وتجعل التكوين يبدو كموزاييك تعبيري. تنقسم اللوحة إلى مستويات لونية منظمة، ما يشبه تقسيم الفُسيفساء، لكن بروح تجريدية معاصرة. 2. اللون والرمز الألوان الحارة (البرتقالي، الأحمر، الأصفر) تُعبّر عن الصدمة، القوة، والحنين. الألوان الباردة (الأزرق، الفيروزي) توحي بالحزن والدموع والذاكرة. الشعر الذهبي المسدل كستار يرمز للأنوثة، لكنه مرسوم بخطوط مكررة تُوحي بالثقل وتأكيد لقيم الجمال. 3. التعبير البصري للعيون العينان تشكلان مركز العمل، لكنهما ليستا متطابقتين، ما يعكس اضطرابًا داخليًا أو انقسامًا نفسياً في أداة البصر وأساس البصيرة. وتكرار الأشكال حول العينين (مثل الشرائط والخطوط العمودية) يوحي بالاحتجاز، كأن الشخصية خلف قناع أو سجن بصري. 4. العناصر الهندسية المثلثات والزوايا في الخلفية والأمامية تمثل مزيجًا من: الإيقاع البصري المنتظم (الزخرفة). دلالات رمزية (المثلث بوصفه رمزًا للهوية الروحية، والتوازن بين البداية والوسط والنهاية). هذه اللوحة بتكعيبيتها وإن بدت تجريدية في شكلها، إلا أنها مشبعة بالتعبير النفسي والوجداني، وتقدم قراءة صامتة لألم وتحطّم داخلي مع تماسك خارجي في قالب بصري ساحر. إنها ليست فقط تصويرًا لامرأة، بل لبُنية الهشاشة والقوة التي تتقاطع داخل الإنسان المعاصر، خصوصًا المرأة في المجتمعات التقليدية. القيمة البصرية في العمل ناتجة عن صراع هادئ بين التزيين والتألم، بين التجميل والإفصاح، وهذه مفارقة يتقنها باجبع، وتمنحه خصوصية في أسلوبه التعبيري. كما أن استعماله للأكريليك بحرفية واضحة في التدرج اللوني والملمس يعطي اللوحة طاقة خامًّا غير مصقولة، تزيد من صدقها الفني. سياق العمل في مسيرة الفنان باجبع إذا نظرنا إلى هذه اللوحة التي أنتجها عام ٢٠٢٠م ضمن مسيرة الفنان، نجد أنها تحمل تطورًا واضحًا عن مراحله السابقة التي كانت أكثر قربًا من الرمزية الواقعية، وتظهر هنا نقلة نحو التجريد الرمزي المكثف. على عكس لوحاته الأولى التي انشغلت بالخيل والحروف والمناظر الشعبية، فإن هذا العمل أكثر انكفاءً على الذات. هناك نضج في التعبير والتبسيط البصري، إذ أصبح الفنان يُلمّح بدل أن يُصرّح، ويترك للمتلقي مساحة أكبر للتأويل. السيرة والمكانة الثقافية للفنان سليمان باجبع ولد الفنان سليمان أحمد باجبع Suliman Bajabaa في جدة عام 1955، ودرس في معهد التربية الفنية بالرياض عام 1976، ثم نال البكالوريوس من جامعة أم القرى عام 2000. جمع بين التجربة التربوية والثقافية والإبداعية، حيث عمل معلمًا للفنون ثم مشرفًا على المعارض والأنشطة الفنية، وشارك في تأسيس ونشر الحراك التشكيلي بجدة والمنطقة الغربية في معارض فردية وجماعية بجمعيات الثقافة والفنون ورعاية الشباب والصالات الأهلية. من أبرز مشاركاته الدولية: معارض في ألمانيا، المكسيك، الولايات المتحدة، المغرب، الكويت، الأردن، الهند، وتونس. حاز جوائز محلية ودولية، منها ميداليات ذهبية وفضية، ومراكز متقدمة في معارض كبرى مثل معرض فناني المرسم بجدة، وبينالي الكويت. يُعد من الفنانين الذين تركوا بصمة مزدوجة: إبداعية وتربوية، حيث درّب أجيالًا من الفنانين، ونقل إليهم خبرته وخياله وسعة رؤيته. ختاما، بتجريد الباكية أمام مرآة التكعيب قدّم لنا باجبع وجهًا لا نعرفه، لكنه يشبهنا جميعًا عندما نتحطّم من الداخل ونتماسك من الخارج، بدمعة صامتة وألوان منفعلة متناقضة. إنها ليست فقط لوحة، بل مرآة حادة لكل ما نخفيه خلف الوجوه. هذا العمل يثبت أن الفنان لا يحتاج إلى مساحات ضخمة أو زخارف مبهرة ليُحدث الأثر بل يكفيه صدق التعبير، كما فعل هنا. # د. عصام عسيري العمل #مقتنيات_خاصة

سليمان باجبع Read More »

error: Content is protected !!