البدايات الفردية

من جدة.. الفن التشكيلي السعودي بذرة البدايات الفردية إلى ثمار المشهد العالمي

في قلب البحر الأحمر، وعلى ضفاف التاريخ، نهضت جدة ليس فقط كمدينة تجارية أو ميناء حيوي للمنطقة الغربية، بل كمركز ثقافي بصري شكّل ملامح الحركة التشكيلية السعودية الحديثة. فقد كانت هذه المدينة، بانفتاحها الجغرافي وتعدديتها الاجتماعية، التربة الخصبة التي نمت فيها أولى بذور الفن التشكيلي المحلي، ثم ازدهرت لتنتج مشهدًا فنيًا معاصرًا متنوعًا ينافس عالميًا.

الملامح الأولى: نشأة صامتة وبدايات فردية لم تشهد جدة بدايات تقليدية في الفن، بل كانت انطلاقتها من خلال مبادرات شخصية لفنانين عادوا من بعثات خارجية، حالمين بفن حديث يعكس ملامح الهوية السعودية في قوالب تشكيلية عصرية. فمنذ الثلاثينات وحتى ستينيات القرن العشرين، بدأت أعمال فنية تظهر هنا وهناك، ولكن بدون إطار مؤسساتي واضح. كان الرسم حينها يُنظر إليه من منظور اللوحات التجارية والرسوم الصحفية، لا كوسيلة تعبير فكرية أو نقدية.

أبرز هؤلاء في تلك المرحلة: محمد راسم العائد من تركيا وأقام أول معرض تشكيلي في السفارات الهولندية والأمريكية منتصف الثلاثينات، ثم عمل بالرسوم الصحفية، جاء بعده في الستينيات الفنان عبدالحليم رضوي، العائد من روما، الذي كسر القوالب الكلاسيكية وأسّس فنا تعبيريا ذو طابع محلي. صفية بن زقر، التي وثّقت الحياة الحجازية في لوحات دقيقة، وأسّست فيما بعد "دارة صفية بن زقر" كأول مؤسسة فنية مستقلة للفن التشكيلي في المملكة. ثم أتت منيرة موصلي وضياء عزيز، عبدالله نواوي، بكر شيخون، طه صبان، فوزية عبداللطيف، هشام بنجابي، أحمد فلمبان، عبدالله حماس، محمد الأعجم ومن تلاهم من فنانين عظام.

الثمانينات والتسعينات: التشكل المؤسسي وانطلاقة الصالات شهدت جدة حدثًا مفصليًا في تاريخها التشكيلي بعد تأسيس جمعية الثقافة والفنون ورعاية الشباب وصالة رِدِك وقبة جدة، والتي مثّلت آنذاك ملتقى للفنانين والمثقفين، ومركزًا للتدريب والورش والمعارض في السبعينات. تزامن هذا من ثورة من النقل والمواصلات والطيران الدولي وتخطيط مدينة جدة جماليا في عهد المهندس محمد سعيد فارسي طيلة الثمانينات، التي جعلت جدة متحفا مفتوحا دائما للعرض، وأسهمت الجمعية ورعاية الشباب وبلدية جدة والتعليم في إزدهار الحراك الثقافي بإقامة معارض جماعية وفردية لفنانين محليين.

كما بدأت صالات العرض الخاصة في الظهور تدريجيًا، مثل: رِدِك، جدة دوم، رضا، المركز السعودي للفنون، بيت التشكيليين، أتيليه جدة، صالة العالمية، دارة صفية بن زقر، وغيرها من الصالات الثقافية التي كانت قبلة لكل الفنانين السعوديين، فقد مكّنتهم من تجاوز الرقابة التقليدية والانفتاح على التجارب العالمية، من الواقعية التعبيرية إلى التجريدية والمفاهيمية. كما أفرز معهد التربية وأقسام الفنون بالجامعات تخريج دفعات كثيرة ظهرت على الساحة التشكيلية وأثرتها بتجارب مختلفة.

الرواد: من بناء الرؤية إلى صياغة الهوية لقد ساهم فنانو جدة الأوائل في وضع الأسس البصرية والثقافية للفن السعودي الحديث، إذ جمعوا بين الوعي الفني الأكاديمي والخصوصية الاجتماعية والدينية للبيئة السعودية. أبرز هؤلاد الذين ظهروا في الستينات والسبعينات:

عبدالحليم رضوي: رسم التراث السعودي بروحانية وشاعرية وحدّث الفن وأرسى قواعده الحديثة.

بكر شيخون: الذي يقدّم تجارب فنية ذات أبعاد معاصرة.

ضياء عزيز ضياء: جسّد الهوية البصرية السعودية بأسلوب كلاسيكي وواقعي حداثي.

طه صبان: اهتم بالعمارة الشعبية والحياة اليومية لجدة، مقدمًا لوحات نابضة بالحركة والتاريخ.

عبدالله حمّاس: رسم ملامح الحنوب وعموم الحجاز وسائر الجزيرة العربية بأسلوب تجريدي تبسيط مستمد من التراث البصري العريق.

من الحداثة إلى ما بعد الحداثة: تحولات معاصرة منذ تسعينيات القرن العشرين، بدأت ملامح الفن المفاهيمي والفنون التركيبية تظهر في جدة، ورافق ذلك انفتاح أكبر على الفن العالمي، وازدهار المعارض الجماعية والفردية. ساعدت المؤسسات الخاصة مثل: مؤسسة المنصورية، مبادرة "21,39" (التي أطلقتها "المجلس الفني السعودي") على دمج الفن المحلي بالسياق الدولي، بمساهمات جميل للفنون، أثر، حافظ قالري.

كما أفرزت هذه المرحلة جيلًا جديدًا من الفنانين الشباب الذين استخدموا الوسائط الحديثة، كأيمن يسري، مهدي جريبي، أحمد ماطر الذي استخدم التصوير الطبي كوسيط تعبيري، سعيد قمحاوي، محمد الغامدي، راشد شعشعي، زهرة غامدي، والعديد من الفنانين الذين وصلت أعمالهم للعالمية، ومراسمهم مليئة بالتجارب الجريئة، يصعب على المقال سرد عشرات الأسماء المهمة والفاعلة ثقافيا في الحراك التشكيلي.

جدة في الفضاء العام: مدينة النحت والفن البصري أحد أبرز ملامح جدة الفنية يتمثل في مشاريع النحت في الفضاء العام، حيث تضم كورنيش جدة ومداخل المدينة أكثر من 500 عمل نحتي لفنانين عالميين مثل: هنري مور، سيزار، ميريدا، إضافة لأعمال فنانين عرب وسعوديين، تستحق دراسة مستقلة.

وقد وصفها البعض بأنها "أكبر متحف مفتوح في العالم العربي"، ما يعكس إرادة مدنية في دمج الفن بالهوية المعمارية والحضرية.

بينالي جدة للفنون الإسلامية، والرؤية الجديدة للفن: جاء إطلاق البينالي لتراث الفن والفن المعاصر في جدة عام 2022 ليؤكد مكانتها كمحور إقليمي للفن، ويجمع عشرات الفنانين من أنحاء العالم. وبدعم من وزارة الثقافة السعودية، وهيئة الفنون البصرية ومؤسسة بينالي الدرعية ترقية البينالي بين التراث الإسلامي والطليعة العالمية في الفن المعاصر، مجسدًا توجهات رؤية المملكة 2030 الثقافية.

خاتمة: جدة لا ترسم فقط... بل تصوغ الذاكرة لم يكن الفن في جدة مجرّد استيراد لأساليب غربية أو نسخ لمدارس أجنبية، بل كان أداة وعي وهوية، وسيلة لاستكشاف الذات، وتأريخ التحولات، وتجسيد الذاكرة. من جدران الأتيليهات القديمة، إلى أروقة البيناليات العالمية، تمضي جدة اليوم في رحلة فنية لا تنفصل عن نسيجها الحضري، ولا عن حلمها بالمستقبل، فقد تم إزالة عدة أحياء قديمة وسُتبني فيها جزر ثقافية ودار أوبرا ومسارح وعشرات الصالات الفنية.

# د. عصام عسيري

photo_5470099605959080598_y
July 20, 2025
photo_5470099605959080599_y
July 20, 2025
photo_5470099605959080600_y
July 20, 2025
photo_5470099605959080601_y
July 20, 2025
photo_5470099605959080596_y
July 20, 2025
photo_5470099605959080597_y
July 20, 2025
photo_5470099605959080603_y
July 20, 2025
photo_5470099605959080604_y
July 20, 2025
photo_5470099605959080614_y
July 20, 2025
photo_5470099605959080612_y
July 20, 2025
photo_5470099605959080613_y
July 20, 2025
photo_5470099605959080602_y
July 20, 2025
photo_5470099605959080607_y
July 20, 2025
photo_5470099605959080608_y
July 20, 2025
photo_5470099605959080609_y
July 20, 2025
photo_5470099605959080610_y
July 20, 2025
photo_5470099605959080611_y
July 20, 2025
photo_5470099605959080606_y
July 20, 2025
error: Content is protected !!