إلياس أيوب… من دمشق إلى العالم: سيرة فنية ولوحة “ياسمين الشام”

سيرة ومسار:

ينتمي الفنان التشكيلي السوري إلياس أيوب Elias Ayoob (مواليد دمشق 1986) إلى جيل شاب استطاع أن يشق طريقه في المشهد التشكيلي العربي والدولي بخطاب بصري متمايز. تخرّج من كلية الفنون الجميلة بجامعة دمشق (2009) بدرجة البكالوريوس في فنون التصوير، وعاد إليها لاحقاً معيدا بين عامي 2012 و2013. في سنوات الحرب والاغتراب، اختار موسكو محطةً أساسية، حيث تابع دراساته العليا فحصل على الماجستير من جامعة كورسك (2016)، وهو اليوم ينجز أطروحة الدكتوراه في تاريخ وفلسفة الفن بمعهد سوريكوف التابع لأكاديمية الفنون الروسية.

بين هذه المحطات، راكم أيوب خبرة ميدانية عبر المعارض والملتقيات في لبنان، روسيا، كرواتيا، بولندا، هولندا، ليتوانيا وغيرها من دول، لتتوزع أعماله على مجموعات خاصة وعامة في أوروبا والشرق الأوسط. أعماله لا تحمل ملامح نزوح قسري فحسب، بل تجسد إعادة بناء الهوية البصرية السورية بألوان حديثة ورموز مكثفة.

الأسلوب الفني:

يتأرجح أسلوب إلياس أيوب بين التعبيرية الرمزية والتجريد المكعّب الحديث (Neo-Cubism)، حيث يمزج بين التكوينات العضوية والعناصر الهندسية. يكثر في لوحاته حضور الكتلة البشرية والفضاء المعماري العربي، وأحياناً الجسد الإنساني، متجلياً في بناءات ملوّنة تتوزع بين الحدة والليونة. اللون عنده ليس زخرفة بل حامل للفكرة، إذ يتكثف في الأزرق والبرتقالي والأخضر ليحمل دلالات وجدانية متصلة بذاكرة دمشق وحواريها.

ياسمين الشام

"ياسمين الشام" (2021): قراءة نقدية

المقاس والخامة: متر × متر أكريلك على قماش مقتنيات خاصة.

في هذه اللوحة، يستحضر أيوب أيقونة دمشق الأبدية: الياسمين المزروع بكثرة في البيوت السورية، ولكنه يخرج بها من إطار الزخرفة الرومانسية إلى بناء تشكيلي متماسك. نرى في التكوين شجرة ياسمين ضخمة تتوسط المشهد، وقد ارتسمت فوقها قبة زرقاء سماوية أقرب إلى رمز الحماية الإلهية. الجذع والكتلة السفلية ليست مجرد أرضية، بل تتحوّل إلى بيوت دمشقية محطمة ومتشابكة، مرسومة بطريقة تفكيكية تدميرية، حيث النوافذ والأقواس والأبواب تتراكب كأنها تراث فسيفساء عمرانية.

المستوى الرمزي: الشجرة هنا ليست نباتاً بل روح دمشق، جذورها في البيوت وفروعها تتفتح بالزهور البيضاء تفوح رائحتها بين الناس، لتوحي بأن الحياة والأمل قادران على النمو فوق الركام، فلا يأس في آمال الفنان. القوس الأزرق في الأعلى يمكن قراءته كإله السماء يحتضن الأرض المباركة، أو قوس نصر بصري يكرّس فكرة الصمود مهما طال الظلم.

المستوى اللوني: اختيار الأخضر الداكن مع بقع بيضاء للياسمين، فوق خلفية باردة من الأزرق والرمادي، يمنح إحساساً بالانتعاش والبراءة، بينما تظهر الأرضية بلون برتقالي دافئ، لتخلق توازناً بين برودة المعمار وحرارة العاطفة. هذا التباين يعكس ثنائية الحياة والموت، البقاء والاندثار. أما ألوان المنازل فهي ثرية بالتنوع والتناغم والانسجام كما حال سكان سوريا.

البنية التشكيلية: التراكب الهندسي للبيوت يتماهى مع مفهوم "المدينة الكولاجية"، حيث تبدو دمشق مكوّنة من شظايا عمرانية متجاورة، لكنها متماسكة بفضل الشجرة/الذاكرة/السماء التي توحدها. هنا يكشف أيوب عن نزعة فلسفية: أن العمارة وحدها لا تحفظ المدينة، بل روحها المتجسدة في رموز مثل شجرة وزهرة الياسمين.

مكانة العمل:

تمثّل لوحة "ياسمين الشام" نموذجاً واضحاً لاتجاه أيوب في المزج بين الرمزية الشعرية والبناء الحداثي، حيث تتحول المفردة الشعبية (الياسمين الدمشقي) إلى أيقونة كونية. إنها لوحة تحتفي بالانتماء والهوية، وتصلح لتكون بياناً بصرياً عن دمشق في القرن الحادي والعشرين: مدينة مجروحة لكنها مورقة بالحب والجمال وتراث العمران.

ختاما: إلياس أيوب فنان يوازن بين الذاكرة المحلية والتجربة العالمية، مستفيداً من دراساته الأكاديمية ورحلاته وتأملاته وممارساته اليومية، دون أن يتخلى عن نبض مدينته الأولى. لوحته "ياسمين الشام" شهادة بصرية على أن الفن قادر أن يصوغ وجدان المدن كما يصوغ وجدان البشر. هي لوحة جديرة بالعرض في فضاءات ثقافية عربية وعالمية، لأنها تختزل مأساة وصمود وجمال دمشق في آن واحد.

error: Content is protected !!