الفن المحرم

مصليات العظام حيث يلتقي الموت بالفن

في قلب أوروبا وفي أروقة بعض أكثر الأماكن قدسيةً يقف الزائر مندهشًا أمام مشهدٍ لا تصدقه عيناه آلاف العظام البشرية مرصعة بأناقة على الجدران والأسقف مشكلةً ثريات ونقوشاً وأوشحةً من الموت هذا ليس مشهدًا من فيلم رعب بل هو واقعٌ لمئات السنين حيث تحولت رفات آلاف البشر إلى تحف فنية مذهلة تثير في نفس الناظر إليها مزيجًا من الرهبة والجمال والتساؤل الأخلاقي أين يقع الحد بين تقديس الموتى وتحويلهم إلى ديكور؟

كنيسة سيدليك "أوساريو" كوتنا هورا التشيك - حيث يرقص الموت

في بلدة كوتنا هورا التشيكية الصغيرة يقع أشهر (مستودع عظام) "ossuary" في العالم من الخارج تبدو "كنيسة سيدليك" كنيسة عادية لكن ما إن تدخلها حتى تلفتك ثريا ضخمة تتدلى من السقف ومعلقات على الجدران وهرمٌ كبيرٌ من الجماجم والعظام المفزع والمؤسف في الأمر أن كل قطعة هنا هي عظمة بشرية حقيقية.

الحقيقة المذهلة يُقدّر عدد الهياكل العظمية التي زينت بهذا المكان بما يتراوح بين 40,000 إلى 70,000 هيكل يعود تاريخها إلى القرون الوسطى عندما جلب راهبٌ تربةً من الأراضي المقدسة ودفنها في مقبرة الكنيسة مما جعلها مكانًا شهيرًا للدفن في كل أوروبا وعندما امتلأت المقبرة تم استخراج العظام لتخزينها فكلف النحات التشيكي فرانتيسك رينت في عام 1870 بمهمة "تنظيمها" فكانت النتيجة هذه التحفة الفنية الصادمة التي تجذب آلاف السياح سنويًا.

سانتا ماريا ديلا كونسيزيوني مصلى الرهبان الكابوتشين في روما إيطاليا - النصيحة الأخيرة

تحت كنيسة سانتا ماريا ديلا كونسيزيوني في العاصمة الإيطالية روما يوجد مصلى مشهور بمقولته العميقة: "ما أنتم عليه كنا نحن وما نحن عليه ستصيرونه أنتم".

فقد تم تزيين الجدران تحت الارض بأنماط معقدة ومزهريات وأشكال هلالية مصنوعة حصريًا من عظام وآلاف الجماجم لأكثر من 4000 راهب كابوتشين ماتوا بين عامي 1528 و1870 الهدف لم يكن الفن للفن بل كان "تذكيرًا ماديًا وقويًا بحتمية الموت وضآلة الحياة الدنيا" كجزء من الممارسة الروحية للرهبان كل زخرفة هنا تحمل رسالة "تذكر أنك ستموت" (Memento Mori).

إيفورا البرتغال عظمة الموت في جمال العمارة

في كنيسة سان فرانسيسكو في مدينة إيفورا البرتغالية يقع مصلى العظام (Capela dos Ossos) على مدخله نقش يحمل تحذيرًا للزائرين "نحن العظام الموجودة هنا بانتظار عظامكم " .

بُني هذا المصلى في القرن السادس عشر من قبل راهب فرنسيسكاني أراد أن يوصل رسالة ضد الثروة والتفاخر الدنيوي تم استخدام عظام ونخاع ما يقارب 5000 شخص من مقابر المدينة لبناء الأعمدة وتلبيس الجدران بالقوس بأكملها الجو العام كئيب ومهيب وهو تجسيد حي لفلسفة زهدية مفادها أن الموت هو القاسم المشترك الوحيد بين جميع البشر.

سيدام النمسا بيت العظام وموسيقى الموتى

في بلدة سيدام النمساوية توجد "بيغوسي" أو "بيت العظام" على عكس الأماكن السابقة فإن الهياكل هنا لم تُرصّع بشكل فني بل رُتبت بطريقة نظامية صارمة. تمتلئ الغرفة بـ1200 جمجمة مصففة على أرفف وكثير منها مُزخرف برسومات من الزهور وأغصان اللبلاب وتواريخ الوفاة وأسماء أصحابها مما يمنحها طابعًا شخصيًا مؤثرًا يعود آخر تاريخ دفن هنا إلى عام 1995 مما يظهر أن هذه الممارسة لم تتوقف تمامًا.

وهكذا تقف هذه الظاهرة على مفترق طرق ثقافي وديني معقد فبينما تمثل تجربة بشرية حاولت تحويل الموت إلى مادة للتأمل الجمالي فإنها تظل من المنظور الإسلامي تجاوزاً صارخاً لحرمة الميت التي أكدتها التعاليم الشرعية

كمسلمين نرى أن تكريم الإنسان لا ينتهي بموته بل يتجلى في الحفاظ على كرامته حتى في قبره والرفات البشرية ليست مادةً للزينة أو عناصر ديكور بل هي أغلفة للأرواح ستُبعث يوم القيامة.

التقاطعات بين الفن والمحظور تذكرنا بأن الجمال الحقيقي لا يكمن في تحويل الموت إلى مجرد قطعة فنية بل في فهم حكمة الخالق من دورة الحياة والموت والوقوف عند الحدود التي شرعها ربما يكون أعظم فن هو ذلك الذي يحترم قدسية الموت دون أن يحاول امتلاكه أو تحويله إلى مجرد وسيلة للتعبير الفني."

error: Content is protected !!