النحت
بقلم الدكتور رياض بنالحاج أحمد: أستاذ مساعد بالمعهد العالي للفنون الجميلة بنابل تونس لقد ظهر النحت كأحد أهم الفنون القديمة وأبرزها فتطوّر مع تطوّر الإنسان والحضارات، ومنه تحوّلت طرق الصياغة والتنفيذ، والأبعاد المفاهيمية والجمالية. لقد كان النحت قائما على أساس جملة من المفاهيم التي تُجسّد معنى الكتلة المغلقة، مثل البري، القطع، والحذف، وهي أفعال يَعْهَدُ بها الفنان إلى إعادة التشكيل في الكتلة. كما تحوّلت صنوف النحت وأبعاده، لنجدها في أحيان متراوحة بين النحت المجسّم ثلاثي الأبعاد أو نظيره البارز، وفي أحيان أخرى، متراوحا بين البعد الوظيفي التعبيري والجمالي. إن هذا التحوّل المتعاقب للحضارات خلق بحثا دؤوبا في المادة وفي طرق الإنجاز. التحولات الإنشائية للنحت نجد لكلمة نحت في اللّغة عدة معان مختلفة، فالنحت في أصل اللغة، هو النشر والبري والقطع. يُقال: نحت النجّار الخشب والعُود إذا براه وهذّب سطوحه، ومثله في الحجارة والجبال، أو في القرآن بقوله تعالى “وتنحتون من الجبال بيوتا فارهين”[1]. وقد عُرِّفت كلمة النحت في المعجم الوسيط كالآتي: “نحَتَ، نَحتًا، ونَحِيتًا. ونحت الشيءَ نحْتًا: قشره وبراه. ويقال: نَحَت الخشب، ونَحَتَ الحجر. ونحت الجبل ومنه: قطع.”[2] وبالتالي حسب المفاهيم الآنفة ذكرها فإن النحت يأتي مفيدا لتشكيل الكتلة عبر الحذف والإنقاص لتحرير الشكل من مستواه الهيولي إلى نضيره المتصوَّر لنتحوّل من الكتلة الموجودة بالقوّة إلى أخرى موجودة بالفعل.. لقد بدأ الإهتمام بالنحت بطريقة فعليّة منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر وخاصة ضمن أعمال النحات “مايكل أنجلو” الذي اهتم بالنسب والمقاييس واهتم بالتفاصيل والجزئيات فاستقى مواضيع أعماله من القصص الديني ومن الأسطورة، وهو ما انتهجه معاصروه وما حذا حذوه العديد من النحاتين لفترة. ومع بداية القرن التاسع عشر الميلادي تحوّل النحت إلى الكلاسيكية الجديدة، فعاد الاهتمام بالكتلة الرصينة والتكوين النحتي الذي تخلّى عن خصائص التصوير ولكن منذ أواخر القرن التاسع عشر بدأ الإهتمام بالقيمة التعبيرية للنحت ضمن طريقة الإنشاء، متنصّلين بذلك من الإرتباط بالنّسب ضمن بنية الجسم الآدمي على حساب البعد التعبيري، وهو ما تمثّل من خلال أعمال النحّات “أوغست رودان” « Auguste Rodin » الذي يُعتبر رائدا للنحت الحديث. الذي أسهم في التأثير على المنظور الجمالي النحتي، ويتجلّى ذلك خاصّة في تمثاليه “مواطنو مدينة كالاس” و”بلزاك” اللذين أرسى من خلالها قواعد جديدة في كيفية التفكير بالعمل النحتي. لم يعد التمثيل إذن هو الأساس في العمل النحتي، بل أصبحت هناك القيم الفنية المتمثلة في علاقات الكتل بعضها ببعض، وفي علاقتها بالفراغ. أصبح النحت الحديث منذ ذلك الحين يعتمد على القيم التجريدية أكثر مما يعتمد تمثيل الطبيعة. ولم تعد القطعة النحتية تسمّى تمثالا بل أسموها نحتا أيضا. ويُعتبر “برانكوزي” « Bankusi » أحد أهم شخصيات النحت في القرن العشرين، والمؤثّر الأساسي في أحد اتجاهاته المميزة وهو الاتجاه المستمر نحو التجريد. ودفع في اتجاه وعي حادّ للشكل. ولقد أنجز أعمالا تقوم على الشكل البسيط، المصقول، الذي يذهب إلى معانقة الشكل بدون مواربة. وعلى الرغم من أن النحت الواقعي الذي يهتم بشكل الإنسان كاد يندثر، إلا أن بعض النحاتين، استوحوا من حركة جسم الإنسان أعمالا فنية. ومن أشهر هؤلاء، النحات “ألبرتو جياكومتي” و”هنري مور”. كما حاول آخرون كسر الحواجز والتجميع بين النحت والتصوير التشكيلي، فأبدعوا أعمالا هجينة. وهكذا أصبح فن النحت متنوعا، ومتداخلا مع غيره من الفنون التشكيلية. وعلى غرار الحراك الثقافي والتشكيلي العالمي فقد شهدت الساحة التشكيلية التونسية، نبوغ بعض الفنانين ضمن النصف الثاني من القرن العشرين الذين درسوا بمدرسة الفنون الجميلة بتونس أو الذين واصلوا دراستهم بالخارج وأجروا العديد من التربّصات واحتكّوا بالتجارب الغربية سواء عبر المعاينة ضمن المتاحف واللقاءات والمعارض وغيرها، وهو ما أسهم في انفلات وتوهّج قريحة المبدع رأيا ونقدا و إبداعا، وهو ما تمثّل من خلال بعض التشكيلين التونسيين من بينهم النحات الهادي السلمي، فكيف كانت هته التجربة وماهي مداراتها البحثيّة؟ الهادي السّلمي: بناء مسيرة ونحت مخاض ولد النحات التونسي الهادي السلمي سنة 1934 وتوفي سنة 1995 درس بمدرسة الفنون الجميلة بتونس ثم انتقل بعدها للدراسة بأكاديمية الفنون الجميلة بباريس سنة 1958 بين سنة 1964 و1968 تابع مرحلة تربّص بورشة النحّات كولا مريني collamarini (حيث تابع فترة تربص في النحت على الحجارة والخشب) وإثر عودته إلى تونس عهد الفنان إلى تفعيل مكتسباته التقنية ومعارف ضمن أعمال فنية شارك فيها في العديد من المعارض الجماعية، ثم تمت دعوته للمشاركة في السمبوزيوم العالمي للنحت المقام في يوغسلافيا سنة 1973 أين التقى وتعرّف على النحات هنري مور Henry Moore . لقد كان لهذا اللقاء بليغ الأثر في تجربة الفنّان التونسي الهادي السلمي إذ تُرجم بداية من خلال أولى أعماله في السمبوزيزم والتي جاءت تحت عنوان العصفور سعى الهادي السلمي من خلال هذا العمل إلى التبسيط والاقتضاب والإيحاء مستندا إلى التجاويف، هي بداية سال فيها وأسهب من خلالها لعاب الفعل التشكيلي لدى السلمي ضمن أعمال مختلفة وعبر مواد متنوعة أهمها الحجارة البرونز الحديد ضمن أحجام ضخمة. نصب الشهداء عند مدخل المدينة بسوسة إن فعل الجرأة التي تحلّى بها السّلمي جعله يخرج النحت من حدود الضيقة وذلك ضمن عرضه في المناطق الحضرية والمفترقات وهو ما أهله ليكون الرائد في هذا المجال، نظرا لقلة النحاتين ولخوفهم من التجسيم لما تعتنقه من هالة المحرّم فكان السّلمي يستخدم المواد الصّلبة (الحديد البرونز …) يعالجها بالتّطريق والثني يتلذّذ برحلة الصراع مع المادة التي ينسج من خلالها عوالمه التي تتمسرح في شكل فرد أو مجموعة تُنحت الشخوص معلنة عن قصّة، حدث، واقعة أو معبّرة عن وضعيّة ضمن الحركات….تكون الأعمال النحتية لديه متنصّلة من زخم التفاصيل والجزئيات مبتعدة عن التمثيل المباشر، هي رحلة ومرحلة عانق فيها السّلمي التجريد والإيحاء، هي تجربة خاض فيها في رحاب الغرائبي ناسجا الجسد بقضبان المعدن، لتلتحم الفكرة بالمادة فتلحم القضبان لتعيد نسج الجسد مجدّدا في هيآت وهياكل نحيفة صفائج وقضبان الحديد والبرونز إشعاع قضبان من الفولاذ الملحوم أما في مرحلة ثانية فقد شهدت تجربته النحتيّة تحوّلا من الأعمال الضخمة إلى نضيرتها الصّغيرة، هو تقلّص في الحجم يعانقه زخم في التشكيل النحتي، فلئن سعى السّلمي في التجربة الأولى إلى إبراز المقدرة في التعامل مع الأحجام الضخمة، والخامات عبر العرض في الساحات العامة والمفترقات، إلاّ أن هذه التجربة كانت تتشابه من حيث البعد التقني لكنها تختلف من حيث التوجّه. إذ سعى من خلالها إلى إرساء ثقافة الأثر الفني النحتي في علاقة بالشعبي واليومي، فكان ينهل من اليومي ضمن المدينة العتيقة صورا ووقائع وأحداث، يكون الجسد الإنساني مدارها وموضوعها لتتجسّم في شكل مسرحة نحتية لحدث، أو في شكل تجسيم لشخوص يستقيها من اليومي ليعيد مسرحة حضورهاعبر العمل النحتي، ليأتي بهذا السياق كاسرا نواميس المحرّم ومحفّزا الذائقة الفنية للتعامل ومهادنة الأثر النحتي. ولادة 1990 برونز 25صم خطاب الجسد ومخاطبة المادة التجديد يجنح السلمي ضمن جملة أعماله النحتية لأن يجعل من الجسد محور اهتمامه وهو في هذا السّياق إنما بشترك مع