مقدمة: الرجل الذي رأى الروح في اللون
في مطلع القرن العشرين، وبينما كانت أوروبا تتأرجح بين العلم المادي الصارم والبحث عن معنى روحي، ظهر مفكر نمساوي آسر بآرائه الثورية هو رودلف شتاينر (Rudolf Steiner) (1861-1925) . لم يكن شتاينر مجرد فيلسوف، بل كان ناقداً أدبياً، ومهندساً معمارياً، ومصلحاً اجتماعياً أسس حركة الأنثروبوصوفيا (Anthroposophy)، أو "حكمة الإنسان". كانت رؤيته تهدف إلى دمج الروحانية والعلوم، مؤكداً أن الإنسان قادر على إدراك الأبعاد الروحية للعالم بنفس القدرة التي يدرك بها عالمه المادي. ومن بين أهم تطبيقات هذه الفلسفة الشمولية، برزت نظرياته العميقة حول اللون ودوره في كالعلاج بالفن"، مقدمةً مقاربة فريدة للشفاء التربوي والروحي.
أولاً. فلسفة اللون: وريث جوته وثورة شتاينر
تستند مقاربة شتاينر للون بشكل أساسي على عمل الشاعر والعالم الألماني يوهان فولفغانغ فون غوته، لا سيما "نظرية الألوان" التي رفضت تفسير نيوتن المادي للضوء. تبنى شتاينر فكرة أن اللون لا ينشأ فقط عن الضوء، بل عن التفاعل بين الضوء والظلام.
لكن شتاينر لم يتوقف عند جوته، بل أضاف البعد الروحي أو النفسي-الروحي (Psycho-Spiritual) لكل لون. يرى شتاينر أن الألوان هي "لغة كونية" تتحدث مباشرة إلى الروح. هي ليست مجرد موجات ضوئية، بل هي تعبير عن قوى كونية ونفسية.
ثنائية القطبين: وفقاً لشتاينر، اللونان الأزرق والأصفر يمثلان القطبين الروحيين المتضادين:
الأزرق: هو "صورة الظلام" أو كجوهر الروح"، ويرتبط بالهدوء، والتأمل.
الأصفر: هو "صورة الضوء" أو" جوهر الروحانية"، ويرتبط بالحيوية، والسطوع.
تقنية التلوين الزجاجي (Lasur Technique):دعا شتاينر إلى استخدام الألوان المائية الشفافة على ورق رطب (wet on wet) لتبدو الألوان "أقرب إلى الضوء الملون النقي"، لإحداث تأثير روحي في الفضاء المعماري (كما في مبنى الغوتهانوم).
ثانيًا. العلاج بالفن الأنثروبوصوفيا الشفاء عبر التعبير
في سياق الأنثروبوصوفيا، لا يُنظر إلى الفن كعلاج تكميلي فحسب، بل كجزء لا يتجزأ من مسار الشفاء الذي يوازن بين الجسد المادي و"الجسد الإثيري" (الحيوي).
التقنيات العلاجية الأساسية:
يقسم شتاينر وأتباعه ممارسة العلاج بالفن إلى تقنيات رئيسية، لكل منها تأثير نفسي وروحي محدد:
1. التلوين المائي الرطب (Wet-on-Wet Painting): تسمح للألوان بالتدفق دون سيطرة ذهنية صارمة، مما يحرر المشاعر اللاواعية ويعزز "التدفق" الروحي.
2. الرسم المظلل (Shaded Drawing):باستخدام الخطوط المتوازية والظلال، وهي تقنية تأملية تعزز وجود "الأنا" وتساعد على الوصول إلى عالم الأفكار.
3. التشكيل بالصلصال (Clay Modeling): العمل على التكوين والشكل المادي، مما يساعد على تقوية الإحساس بالذات وتجسيد الصراعات الداخلية في صورة ملموسة.
ثالثًا. رسل الإرث: تلاميذ شتاينر ومستقبلو العلم
لم تتوقف أفكار شتاينر بوفاته، بل تحولت إلى مؤسسات حية بفضل جهود تلامذته الأوفياء الذين قاموا بتنظيم وتطبيق أفكاره بشكل ممنهج، مما ضمن استمرارية الأنثروبوصوفيا في كافة المجالات، وخاصة في العلاج والفنون: إيتا فيجمان (Ita Wegman): تُعد الشريك المؤسس للطب الأنثروبوصوفي. ساهمت في تأسيس أول عيادة أنثروبوصوفية في أرسهايم عام 1921، وطورت العلاجات الحركية، وساعدت في إرساء الأساس العملي والسريري لهذا النوع من الطب.
ماري شتاينر (Marie Steiner-von Sivers): زوجة شتاينر وشريكته المقربة، لعبت دوراً حاسماً في تطوير فن الإيورثمي (Eurythmy)، وهو فن حركي علاجي. كما أنها قادت جهود نشر وحفظ وتنظيم أعمال شتاينر بعد وفاته. مارقريت هوشكا (Margarethe Hauschka): ساهمت مباشرة في تطوير وتوثيق (العلاج بالفن الأنثروبوصوفي) . أسست مدرسة للعلاج الفني والتدليك الإيقاعي في ألمانيا، ووضعت الأسس المنهجية لتدريب المعالجين في هذا المجال.
استمرارية الإنجاز:
يُعزى الفضل لهؤلاء الرواد في تحويل أفكار شتاينر الفلسفية إلى نظم علاجية وتربوية وعلمية قابلة للتطبيق والتدريس. لقد أسسوا المستشفيات والعيادات والمدارس (كمدارس فالدورف ومجتمعات كامب هيل)، مما جعل الأنثروبوصوفيا حقيقة ملموسة في المجتمعات، وأكدوا أن الفن ليس ترفاً، بل هو قوة علاجية جبارة تتيح للإنسان تحقيق التوازن والشفاء.
ختامًا، إرث مستمر في العصر الحديث
إن رودلف شتاينر يذكرنا بأن الفن ليس ترفاً، بل هو جسر ضروري بين الروح والمادة. اليوم، لا تزال نظرياته في اللون والشكل هي الأساس الفني والتربوي لمؤسسات شتاينر المنتشرة حول العالم، ويستمر العلاج بالفن الأنثروبوصوفي في مساعدة الأفراد على تحقيق التوازن الروحي والنفسي عبر لغة الألوان الأبدية.
الصور من جميل إبداعات الفنان السعودي مفرح عسيري ، أكريلك على كانفاس ١/١م و ٥٠/٥٠سم.




