
قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّذِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ
الفن في القرآن إتقانٌ وجمالٌ وضوابطُ روحية
كثيرًا ما يثار السؤال : هل تحدث القرآن الكريم عن الفن؟ والإجابة ليست بنعم أو لا فحسب بل هي رحلة في أعماق النص القرآني لتكتشف تصورًا فريدًا يجمع بين الجوهر الجمالي والعمق الأخلاقي لم ترد كلمة "الفن" بالمصطلح الحديث في القرآن لكن روحه وجوهره يتنفسان في كل مكان فكلمة "فن" في أصلها اللغوي تعود إلى "الصنعة" و"الإتقان" وهذا بالضبط ما يجده القارئ للقرآن وهو يتأمل آياته.
الإتقان: الأساس الأول للفن
يضع القرآن الكريم قاعدةً أساسيةً لأي عمل إبداعي وهي الإتقان فالله تعالى يصف خلقه بأنه محكم ومتقن {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} [النمل: 88] هذا الإتقان الإلهي هو النموذج الذي يُحتذى به وحين أمر الله نبيّه نوحًا عليه السلام ببناء السفينة استخدم القرآن فعل "الصناعة" الدال على المهارة والحرفة {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا} [هود: ٣٧]. فكانت الفُلْك تحفة هندسية معجزة جسّدت أعلى درجات التخطيط الدقيق والتنفيذ الماهر."
حب الجمال فطرة إلهية
يعترف القرآن بحب الإنسان الفطري للجمال والزينة ويصورها كأحد تجليات نعم الله على عباده يقول تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّذِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعراف: 32] هذه "الزينة" تشمل كل ما يتجمل به في الملبس والمأكل والمسكن والمظهر وهي المجال الرحب للإبداع الفني حتى في وصف نعيم الجنة يأتي الوصف بلغة بصرية وسمعية أخّاذة تثير الإحساس بالجمال من جناتٍ إلى حُللٍ حريرية إلى ظلالٍ ممدة مما يجعل التذوق الجمالي جزءًا من العقيدة
نماذج فنية في القرآن
تلمح الآيات إلى أنواع محددة من الفنون وتقدم نظرة تقوم على التوازن بين المتعة والغاية:
الشعر: خصص القرآن سورة كاملة باسم "الشعراء" وقدم فيها رؤية نقدية متوازنة فهو ينتقد الشعراء الذين يتبعهم الغاوون ويقولون ما لا يفعلون لكنه يستثني بشكل صريح أولئك الذين {آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا} [الشعراء: 227] وهنا يُرسي مبدأ أن يكون الفن رساليًا هادفًا متصلًا بالله والقيم لا مجرد كلامٍ فارغ او منحط.
"العمارة والنحت:
لا يقتصرُ دورُ الفنون في الرؤية القرآنية على تسجيل المهارة البشرية بل يتعدّاها ليكونَ شاهِداً على الحوارِ الأصيل بين الإبداعِ البشريِّ والغايةِ الإلهية فحين يتحولُ الحجرُ إلى قصيدة والفضاءُ إلى معنى يصبحُ الفنُّ لغةً للروح قبل أن يكونَ تشكيلاً للمادة.
وفي هذا الإطار تبرزُ قصةُ سليمان عليه السلام كنموذجٍ فذّ حيثُ لا تنفصلُ روعةُ البناء عن قداسةِ المقصد فمملكته التي وصفها القرآن بـ {مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ} [سبأ: 13] تقدّمُ لوحةً متكاملةً تَجْمَعُ بين جمالِ المحاريبِ الروحيّ " مكان العباده"وجمالِ التماثيلِ الماديّ في توافقٍ نادرٍ يذكرُ بأنّ الفنَّ يخدمُ الحياةَ ولا يعاديهـا.

بل إنّ القرآنَ ذهبُ إلى أبعدَ من ذلك فيعترفُ بـ "حياديةِ المهارةِ" وقيمةِ الإتقانِ بغضِّ النظرِ عن سياقها فهو يذكرُ براعةَ قومِ ثمودَ في النحتِ دون أن يخفي إعجابه بالصنعة {وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا} [الأعراف: 74] ويبلغُ الأمرُ ذروتَه حينَ يصيرُ النحتُ نفسه مدخلاً للإعجازِ في قصةِ عيسى عليه السلام {إِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ} [المائدة: 110].
وذِكر بناءُ إبراهيمَ وإسماعيلَ عليهما السلام للكعبة {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ} [البقرة: 127] يظلُّ النموذجَ الأكملَ لفنٍّ العمارةٍ التي ارتبطتْ بأقدسِ غاية.
"وهكذا يتجاوز القرآن النظرة السطحية للفنون فلا يحرّم النحت أو العمارة لذاتهما بل يضبط غايتهما ومسارَهما. فالجمال المادي يجب أن يكون نافذةً على الجمال المعنوي، والإبداع البشري امتدادًا للإتقان الإلهي في الكون. وهذا هو المعنى العميق لـ {صِبْغَةَ اللَّهِ} في الفن؛ أن يكون تجسيدًا للإحسان، وتذكيرًا بالخالق، وخدمةً للإنسان."
يُؤسس القرآن الكريم لمنهجٍ جماليٍ حيوي يجعل من الإتقان عبادة ومن الجمال ذكرى ومن الإبداع رسالة فالإطار الأسمى للفن في هذه الرؤية هو اتّساقه مع {صِبْغَةَ اللَّهِ} التوحيد الخالص والقيم الأخلاقية المتجذرة في الفطرة السليمة وبهذا يتحول الفن من مهارةٍ تُعجب العين إلى صِبغةٍ تتغلغل في الروح.
فالفن في النهاية ليس غاية في ذاته بل هو وسيلة لتذوق جمال الخالق وعمارة الأرض بإتقان وهو ما يجعل منه جزءاً لا يتجزأ من رسالة الإنسان في الحياة تحقيقًا لقول النبي صلى الله عليه وسلم "إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه" فهو الخَلقٌ الجميل الذي يبدأ بالإحسان وينتهي به.