فن الفسيفساء بصمة الزمن على جدران التاريخ
منذ فجر الحضارة والإنسان يبحث عن لغته البصرية ليروي قصصًا لا تُحكى بالكلمات بل تُرصّع بالحجارة والزجاج. إنه فن الفسيفساء، ذلك الفن العتيق الذي حوّل الأرضيات والجدران إلى لوحات خالدة، تحمل في طياتها أسرار أممٍ اندثرت وروح ثقافاتٍ ما زالت تنبض بالحياة.
كانت الفسيفساء سجلاً حافلاً للحياة اليومية والعقائد والأساطير بدأت رحلتها في بلاد ما بين النهرين حيث رصّع السومريون أعمدة معابدهم بالقطع الطينية الملونة ثم أتقن الإغريق صنعها محولين الأرضيات إلى مشاهد أسطورية مفعمة بالحركة والحياة ولكنَّ الروم هم من أطلقوا العنان لهذا الفن فغُصّت قصور بومبي وهركولانيوم بمشاهد صيدٍ واحتفالات كل قطعة حجرية فيها كانت كلمة في ملحمة بصرية تخلد ثراء الإمبراطورية وعظمتها.
مع صعود الإمبراطورية البيزنطية انتقلت الفسيفساء من الأرض لتصعد إلى القباب والسقوف هنا تحولت القطع الزجاجية المذهبة إلى نافذة على العالم السماوي في آيا صوفيا وكنائس رافينا لم تعد اللوحات تصور بشرًا بل قديسين وهالات نورانية تسبح في فضاءات من الذهب أصبحت الفسيفساء لغة الروح أداة لترجمة الجلال الإلهي إلى ومضات من الضوء واللون.
وعندما دخل الإسلام إلى الساحة الفنية أعاد تعريف الجمال انطلاقًا من التحريم الجزئي للتصوير ولد فن الزليج Zellige art أو الزخرفة الهندسية الإسلامية وهو ذروة التجريد والعبقرية الحسابية في مساجد القيروان وقصور الحمراء ومدارس فاس تحولت الفسيفساء إلى أحاجي معقدة من النجوم والمعينات، كل قطعة خزفية مُقَطَّعة يدويًا بدقة متناهية تجتمع مع أختها لتشكل نمطًا لا نهائيًا، يرمز إلى تناغم الكون واتساع الخالق.
تنوعت أشكال الفسيفساء بتنوع الحضارات والمواد والتقنيات فمن ناحية المواد، نجد فسيفساء الحجر بأرضيات الرخام والجرانيت، وفسيفساء الزجاج الشفاف البريق وفن الزليج الإسلامي بسيراميكه المقطع يدوياً، وفسيفساء المرايا الفارسية بانعكاساتها السحرية فسيفساء الخشب في ايطاليا وفسيفساء البورسلين العصرية بمتانتها وجمالها.
ومن الناحية الفنية تعددت الأساليب بين الواقعية السردية في الفن الإغريقي الروماني والرمزية الروحانية في الفن البيزنطي والتجريدية الرياضية في الفن الإسلامي، والتجريبية المعاصرة بموادها المعاد تدويرها. كما اختلفت التقنيات بين الطريقة المباشرة في لصق القطع والطريقة العكسية المستخدمة في فن الزليج.
في عصر النهضة، تراجعت شعبية الفسيفساء لصالح اللوحة الزيتية، لكنها عادت بقوة في العصر الحديث بلغة جديدة من محطات المترو في موسكو إلى الجداريات في البرازيل، أصبحت الفسيفساء أداة للفن المجتمعي والتجريبي، تحكي قصص المدن وهموم الإنسان المعاصر.
فن الفسيفساء هو أكثر من مجرد حرفية إنه استعارة بصرية رائعة عن الحياة نفسها كل قطعة صغيرة بسيطة بمفردها لكن عندما توضع في مكانها الصحيح تساهم في خلق صورة أكبر وأعظم من الحجر إلى الزجاج ومن الأسطورة إلى الرياضيات تظل الفسيفساء الشاهد الأصدق على أن الجمال هو تلك اللغة المشتركة التي تتحدث بها الإنسانية عبر العصور.
Zellige art










الفسيفساء العالميه





















الفسيفساء في العصر الحديث










