فن التامبو والوارا 

في قلب الريف الياباني بعيدًا عن صخب المدن وزحف التكنولوجيا تُنسج واحدة من أروع حكايا الفن التعاوني في العالم.إنها "تامبو آرت" (Tambo Art) حيث لا تكون اللوحة قماشًا ولا الألوان زيتًا أو أكريليك، بل تكون الحقول بأكملها هي اللوحة وأشجار الأرز هي الألوان.

كيف تولد اللوحة من الأرض؟

الفكرة ببساطة عبقرية: بدلاً من زرع نوع واحد من الأرز في الحقل يزرع المزارعون والفنانون والمتطوعون مجموعة مُختارة بعناية من أصناف الأرز الملونة المختلفة لكل صنف لونه المميز فهناك الأرز ذو الأوراق الخضراء الداكنة وآخر بأوراق صفراء وأنواع بنفسجية وحمراء.

عندما تنمو هذه النباتات تبدأ في تشكيل لوحة فسيفسائية عملاقة يمكن رؤيتها فقط من ارتفاع معين التصميم لا يُرى من الأرض بل يظهر بكل بهائه للزائرين الذين يصعدون إلى منصات مراقبة مبنية خصيصًا لهذا الغرض وكأن الطبيعة تكشف عن سرها لأولئك الذين ينظرون إليها من منظور مختلف.

نشأت "تامبو آرت" في قرية إناكاداته في محافظة آوموري عام 1993 كوسيلة مبتكرة لإحياء السياحة وروح المجتمع في منطقة ريفية كانت تواجه الانكماش السكاني والاقتصادي لم تكن مجرد مبادرة فنية بل كانت صرخة أمل.

تحولت هذه الفكرة البسيطة إلى ظاهرة وطنية اليوم قرى مثل يوكي في إيباراكي تتنافس لإنشاء أكثر التصاميم إبداعًا وتعقيدًا التي تتراوح بين شخصيات الأنيمي الشهيرة (مثل الدراغون بول والفتاة الساحرة سايلور مون) إلى لوحات تاريخية عالمية (مثل الموناليزا) وصور لرموز ثقافية يابانية.

وبعد أن يُحصد الأرز ويجفف القش (الوارا) لا تنتهي القصة فمن هذا القش الذي يبدو للبعض نفاية تُولد أساطير فيجتمع حرفيون ومزارعون لبناء هياكل خشبية ضخمة على شكل تنانين ودببة وعناكب عملاقة وحيوانات أسطورية ثم يُكسُونها تمامًا بقش الأرز بحرفية مذهلة.

هذه المنحوتات الضخمة (وارا آرت) لا تقل روعة عن لوحات الحقل إنها تجسد روح القوة والخصوبة وتحول الحقول إلى متحف مفتوح للخيال حيث يتحول المنتج الثانوي البسيط إلى كائن خرافي يثير الدهشة.

والجانب الأكثر إلهامًا في "تامبو آرت" و"وارا آرت" ليس النتيجة النهائية المذهلة بل رحلة الخلق نفسها إنهما يعكسان تعاونًا جماعيًا نادرًا بين المزارعين الحكماء الذين يعرفون أسرار أرضهم والفنانين الذين يصممون برؤية دقيقة وأهالي القرية من كبار السن والشباب والأطفال الذين يزرعون كل نبتة أرز بأيديهم في "التامبو" أو يحيكون القش في "الوارا" حول الهياكل الخشبية بكثير من الصبر والحرفية.

هذه العمليات ليست مجرد نشاطات فنية بل هي طقوس مجتمعية عميقة تعيد ربط الإنسان بالإنسان و بأرضه وبجذوره وتذكر الجميع بأن القيمة الحقيقية تكمن في العمل المشترك والهدف الواحد.

"تامبو آرت" و"وارا آرت" هما احتفال بالحياة ودورة الطبيعة والقدرة الإنسانية على تحويل أبسط المواد – البذور والقش – إلى رسالة جمالية تخاطب العالم إنهما دليل ملموس على أن الإبداع هو أقوى أدوات الوحدة وأن الجمال الحقيقي يولد عندما تلتقي أيادي المجتمع حول فكرة واحدة.