June 11, 2025

التراث في قبضة الوفاء

سعوديون يجمعون التاريخ ليصنعوا المستقبل في وطن تتجذر حضارته بين الرمال والجبال، وتكتب أيامه بالخط المسند والنبطي والعربي، تشهد المملكة العربية السعودية نهضة متصاعدة في مجال جمع التراث والتحف، لا باعتبارها رفاهية ثقافية، بل بوصفها ركيزة من ركائز الهوية الوطنية. إن جمع التراث في السعودية ليس مجرد تصفح للماضي، بل استحضار لروح المكان والزمان والإنسان. من أسواق “جدة” العتيقة، إلى نقوش الحجاز والعلا وجبة وحائل، إلى بيوت الحجر في عسير والطين في نجران ونجد والأحساء، يُحفظ التاريخ في شكل تحف وأدوات وصور ومخطوطات. وفي ذلك يقول الباحث والمؤرخ الدكتور عبدالعزيز بن عبدالرحمن التويجري: “لا حضارة بلا ذاكرة، ولا مستقبل لأمة تنسى ماضيها. والتحف التي تُجمع اليوم، ستُروى على ألسنة الأجيال غدًا كحكايات تؤسس الوعي وتعزز الانتماء”. وقد لعب الأفراد دورًا محوريًا في هذا المسار، حيث برزت مبادرات شخصية رائعة، مثل متحف عبدالرؤوف خليل بجدة، الشهري في النماص، علي الدايل في القصيم، ومتحف سالم الجهني والخريجي في المدينة المنورة، ومتحفي الخاص بالفنون التشكيلية بجدة، والليلة كنا في متحف الجفري وغيره من المتاحف الخاصة التي تحول فيها الشغف إلى رسالة. هؤلاء الجامعون لا يشترون الأشياء، بل يشترون الزمن ويمنحوه حياة جديدة. الهيئات الرسمية مثل هيئة التراث وهيئة المتاحف بوزارة الثقافة سارعت بدورها لتأطير هذا الحراك، من خلال دعم المتاحف الأهلية، وتوثيق المقتنيات، ودمج عناصر التراث المادي وغير المادي في الفعاليات والمناهج. وفي تصريح سابق، أكد وزير الثقافة سمو الأمير بدر بن عبدالله بن فرحان: “التراث ليس للماضي فقط، بل هو مورد استراتيجي يعكس غنى الوطن وتعدده. نحفظه ونقدّمه للعالم بلغته الأصيلة”. ومع انطلاق “رؤية السعودية 2030″، أصبح الحفاظ على التراث جزءًا من اقتصاد الثقافة، ومن سردية الدولة الحديثة التي تفتخر بجذورها وتستثمر فيها. فالسياحة التراثية، والمتاحف الرقمية، والأسواق التقليدية باتت وجهات يقصدها الداخل والخارج، لا لمشاهدة التحف فحسب، بل لفهم القصة التي ترويها. وفي ظل هذا الحراك، تتجدد الدعوة لكل سعودي وسعودية: أن ينظر إلى ما بين يديه من مقتنيات الأجداد لا كأغراض مهملة، بل كمفاتيح لهوية تنتظر من يُحييها. ختاما، جمع التراث في السعودية لم يعد مجرّد هواية لهواة الماضي، بل أصبح فعلًا ثقافيا وطنيًا يربط الأجيال بجذورها، ويمنح التحف والقطع القديمة روحًا جديدة تروي قصة الوطن من زواياه الأكثر عمقًا وإنسانية. بين الأيادي الهاوية والمؤسسات الطموحة، ينبض التاريخ حيًّا في كل قطعة، ليُقال للعالم: هنا حضارة لا تُنسى، وهوية لا تُستبدل. # د/ عصام عسيري

التراث في قبضة الوفاء Read More »