النساجات

في زاوية منعزلة من متحف ديل برادو بمدريد، تعلو لوحة تُحاكي بألوانها وأضوائها قصةً خالدة من زمن الأساطير. ليست مجرد مشهد لنسّاجات يعملن، بل هي "صراع بين الكبرياء الإلهي والعبقرية البشرية"، بين الخلود والفناء، بين أثينا وأراكني. هذه هي لوحة "أسطورة أراكني" أو "النسّاجات" للعبقري الإسباني دييغو فيلاثكيث، التي رسمها عام 1657 كإحدى آخر تحفه الفنية قبل رحيله.

المشهد الأول: ورشة النسيج حيث تبدأ الأسطورة عندما تقترب من اللوحة، تسمع تقريبًا أصوات المغازل تدور، وترى النساء منشغلات بحركات سريعة ودقيقة. في المقدمة، تظهر عاملاتٌ متواضعات، وجوههنّ منحنية نحو العمل، أيديهنّ تنسج خيوطًا ذهبية تحت ضوء خافت. لكن انظر بعيدًا، إلى الخلفية، حيث يتحوّل المشهد إلى مسرح أسطوري.

هناك، تحت أقواس القصر، تقف "أثينا" (مينيرفا) مرتدية خوذتها، متجهمة الوجه، تشير بغضب إلى سجادة مُعلّقة. أمامها، "أراكني"، الفتاة المغرورة التي تجرأت على تحدي إلهة الحكمة والفنون. السجادة المنسوجة تُظهر لحظة اختطاف أوروبا على يد زيوس المُتنكّر على شكل ثور — قصة تذكّر بقوة الآلهة التي لا تُقهر.

الأسطورة التي ألهمت فيلاثكيث حسب رواية الشاعر "أوفيد" في "تحولاته"، كانت أراكني "أمهر حائكة في العالم" حتى إن الناس ظنوا أن الإلهة أثينا نفسها علّمتها. لكن أراكني، بكل كبرياء، نفت ذلك وتحدّتها في مسابقة نسج.

عندما رأت أثينا روعة نسيج أراكني — الذي كشف بجرأة ضعف الآلهة وجرائمهم — مزّقته بغضب وحوّلت الفتاة إلى "عنكبوت" لتظل تنسج إلى الأبد دون أن تلمس إبداعها المجد.

فيلاثكيث: الفنان الذي نسج مصير البشر لم يرسم فيلاثكيث مجرد أسطورة، بل عبّر عن نفسه من خلالها. في زمن كان فيه الفنانون يعتبرون حرفيين وليسوا مبدعين، جعل فيلاثكيث من أراكني رمزًا للفنان الثائر الذي يتحدى السلطة بإبداعه.

- الضوء الساحر: يسلط فيلاثكيث الضوء على المشهد الخلفي، وكأنه يقول: "الإبداع الحقيقي يحدث حين يتجرأ البشر على النظر إلى الأعلى".

- الواقعية والسحر: مزج بين الحياة اليومية (النسّاجات العاملات) والعالم الإلهي، ليذكّرنا أن الأساطير تعيش بيننا.

- المرآة الخفية: مثل لوحته الشهيرة "وصيفات الشرف"، يترك فيلاثكيث المشاهد يتساءل: هل نحن جمهور أم جزء من اللوحة؟

لماذا تظل هذه اللوحة خالدة؟ لأنها ليست مجرد قصة عقاب، بل احتفال بالجمال الذي يخلقه البشر رغم كل شيء. أراكني خسرت المعركة، لكن نسيجها بقي في الذاكرة، مثل لوحة فيلاثكيث التي تتحدى الزمن. في النهاية، كل من يقف أمام "النسّاجات" يشعر بأنه أمام سرٍّ عظيم: أن الفن قد يكون لعنة أحيانًا، لكنه دائمًا ينتصر.