ما وراء اللوحة

بيلّي جيميسون: صائد الأشباح الذي باع الموت واشترى الخلود

في أعماق مدينة تورونتو الكندية، داخل منزل قديم يخنقه الغموض، عاش رجل جمع بين شغف الأركيولوجيا وجنون المغامرة، رجل كانت غرفه تضج بصمت القرون، وتماثيله تراقبك من حيث لا تدري. اسمه بيلّي جيميسون، تاجر تحف، صائد كنوز، صانع أساطير والمفارقة أن قصته الأكثر إثارة بدأت فعلياً بعد وفاته. بداية غريبة: من العدم لم يولد بيلّي وفي فمه ملعقة من ذهب. في شبابه، عمل في تجارة المعدات الطبية، لكنه سرعان ما ترك كل شيء وراءه، مدفوعاً بهاجس غريب، وهو البحث عن التاريخ المنسي في مزادات العالم السفلي. لم يكن حلمه أن يقتني لوحات أو تماثيل كلاسيكية يتداولها الجميع، بل كان يسعى وراء بالفرادة أو ما سمّاه “بصمات الموتى” رؤوس منكمشة من قبائل الأمازون، أدوات تعذيب من محاكم التفتيش، جماجم مزينة بالنقوش، ومومياوات حقيقية من عصور فرعونية. بدأت شهرته حين اشترى ما تبيّن لاحقاً أنه تابوت الملك رمسيس الأول من متحف مهجور في نياجرا فولز، بعد أن كان مدفونًا في النسيان التجاري لعقود. بإحساسه المرهف تجاه القطع “الحية”، تواصل مع خبراء مصريين، وتأكد أن التابوت يعود بالفعل لأول ملوك الأسرة التاسعة عشرة في مصر. قرر أن يعيده إلى موطنه الأصلي في 1999. ومن تلك اللحظة، أصبح اسمه متداولاً في الصحافة العالمية (الرجل الذي أعاد فرعونًا إلى بلده). مرحلة الرجل الواحد: تحوّل منزله في تورونتو إلى متحف سري مفتوح لأصدقائه وللصحافة المقربة، يعجّ بمئات القطع التي تثير الذهول والرعب في آنٍ واحد. في إحدى الغرف، كانت هناك رؤوس بشرية منكمشة صنعتها قبائل الجيفارو، وبعض الجثث التي نُزعت منها العظام قبل التحنيط تحت الأرض وانكمشت حتي أصبحت بحجم دمى الأطفال، وفي أخرى كرسي إعدام بالكهرباء يعود للقرن الماضي. كل قطعة لم تكن مجرد غرض أثري، بل كانت تحمل حكاية، جريمة، طقسًا وثنيًا، أو وعدًا بالخلود. لم يكن بيلّي جيميسون مجرد جامع؛ كان يعيش مع مقتنياته، يحدّثها، يفهمها، يقرأ ما بين غبارها. قال مرةً في مقابلة مع History Channel: “ما أجمعه ليس الموت، بل صدى الحياة كما أرادها من سبقونا. ” مرحلة نجم التلفزيون في عالم الظلال: أُنتج له برنامج وثائقي بعنوان Treasure Trader على قناة History، كان يرافقه في مغامراته داخل مخازن الموت، ومزادات النوادر، واللقاءات السرية مع جامعي التحف حول العالم. أظهر البرنامج ذكاءه، شغفه، ولحظات التوتر حين يراهن بكل شيء على قطعة واحدة، منها مغامرته باقتراض مبلغ نصف مليون دولار من البنك لشراء تركة عالم مصريات سويسري، 400 قطعة أثرية حصل عليها بشكل قانوني لما كان يعمل في وفد دراسات أثرية بمصر أواخر القرن التاسع عشر، باع بيللي واحدة منها لاحقا بمليونين دولار وسدد البنك، لكن البرامج لم تُعرض سوى حلقات قليلة من مغامراته. في الثالث من يوليو 2011، في اليوم الذي بلغ فيه الـ57 من عمره، سقط ميتًا إثر نوبة قلبية… وكأن القدر اختار أن يُطفئ شمعته في نفس اللحظة التي أُشعلت فيها لصفقة أثرية جديدة لشراء رأس القديس الأسيسي. مرحلة الأسطورة.. ما بعد الموت: بعد وفاته، انهالت دور المزادات على مقتنياته، والتي بلغ عددها آلاف القطع. بيعت مومياواته ورؤوسه المنكمشة، وكرسي التعذيب، وحتى أوراقه الخاصة، بمبالغ ضخمة، وتفرّقت “أرواح متحفه” إلى مقتنين من أميركا، أوروبا، والشرق. لكن جيميسون لم يختف. ظل حيًا في ذاكرة الثقافة الشعبية: -يُستشهد به في حلقات البودكاست عن الرعب والتحف الغريبة. -يُكتب عنه في مجلات الآثار والمغامرة. -وتحولت مقتنياته إلى مواضيع بحث ودراسة، بل وحتى أفلام وثائقية. نهاية ملهمة: تاجر أم فيلسوف موت؟ لم يكن بيلّي جيميسون باحث دفائن أو لصّ قبور، ولم يكن مجرد تاجر غرائب. كان في جوهره شاعرًا يتحدث بلغة الجثث والعظام. رأى في كل جمجمة قصيدة، وفي كل مومياء سؤالًا أبديًا عن مصيرنا. اقتنى الرعب لكنه لم يكن مرعوبًا. زار الظلام لكنه لم يُظلم. ترك وراءه إرثًا ليس من الذهب، بل من الحكايات التي تتنفس من تحت التراب وتفضح أسرار طقوس الموت الغريبة.

بيلّي جيميسون: صائد الأشباح الذي باع الموت واشترى الخلود Read More »

“نمبر وَن” روبرت تشانغ

حارس أمين على كنوز الإمبراطورية الخزفية، في ردهات الصالات المعروضة، حيث يرقص الضوء على أسطح الخزف المصقول، وتتوهج الألوان الزاهية، لا يمكن للمرء إلا أن يشعر بهيبة التاريخ وعمق الفن. هناك، وسط هذه التحف الخالدة، يتجلى إرث رجل كرس حياته لشغف لا يضاهى: روبرت تشانغ نَمبر وَن، أو كما يُعرف في أروقة عشاق الفن، “حارس كنوز الإمبراطورية السماوية”. في أحد أزقة شنغهاي القديمة، كان صبي صغير يرتّب أواني خزفية على رفوف متجر جده. لم يكن يعلم أن يديه المرتجفتين آنذاك ستصافح لاحقًا أهم أعمال أسرة تانغ وسونغ ومينغ، وأنه سيجلس في الصف الأول لكل مزاد كبرى في هونغ كونغ، ملوّحًا برقمه “001”، مبتسمًا بابتسامة من يعرف جيدًا قيمة ما بين يديه. ذلك الصبي كان روبرت تشانغ، الرجل الذي صنع من سوق الفن الصيني إمبراطورية خاصة، لا تحكمها حدود، وتربّع على قائمة أثرى مئة رجل أعمال صيني لمدة نصف قرن متواصلة. وُلد روبرت تشانغ عام 1927 في تشانغتشو بمقاطعة جيانغسو، وسط الصين. كان والده تاجر تحف محترف، وجده نحاتاً فنياً عُرف بدقته وروحه المتأملة. ما إن بلغ الرابعة عشرة، حتى بدأ تشانغ يتعلّم أسرار السوق في متجر العائلة، ليتحول سريعًا من مجرد صبي يرتب الأواني إلى عين خبيرة تستطيع تمييز أصالة القطعة من أول نظرة ولمسة. لكن الحرب الأهلية وتغيّر الأحوال السياسية وتدهور الحالة المادية للعائلة دفعت به إلى مغادرة البلاد، فحمل حقيبة واحدة بها أروع مقتنيات والده وجده و26 دولارًا فقط، وغادر إلى هونغ كونغ عام 1948. هناك، نام على الصحف، وتنقّل بين الأزقة، يتأمل التحف من خلف النوافذ، ويقارنها بخزين ذاكرته المليئة بكنوز شنغهاي. لم يكن يتحدث الإنجليزية، ولم يملك صديقًا، سوى حلم واحد: أن يصبح جامع تحف لا يشبه أحد. بدأ من الصفر، يسرح بتحفه في الشارع بين المتسوقين، حتى أسّس أول متجر له في هونغ كونغ، ثم تلاه أربعة آخرون خلال العقد الأول من استقراره. أتقن فن التفاوض، وبعمل دؤوب بنى شبكة مع زبائن من تايوان، سنغافورة، ثم أوروبا. في الخمسينيات، اشترى تمثالًا خزفيًا من أسرة تانغ مقابل 20 دولارًا فقط. وبعد ثلاثين عامًا، بيع تمثال مماثل بأكثر من مئة ألف. لم يكن روبرت صائد فرص، بل صائد معرفة. في الستينيات، اقتحم عالم المزادات الدولية، متنقلًا بين لندن ونيويورك، وشهد تحوّل الفن الصيني من سلعة هامشية إلى نجم في قاعات كريستيز وسوثبيز. حين افتتحت كريستيز فرعها في هونغ كونغ عام 1986، كان أول من سجل اسمه، واحتفظ منذ ذلك الحين برقمه الخاص “1” في كل مزاد. لم يكن حضوره مجرد بروتوكول، بل طقس فني يمارسه بحماسة المبتدئ وخبرة العارف، ولا يرضى ببيع الأونلاين؛ فهو يسعد بشدة لتصفيق الحضور عند رسو المزاد عليه وإتمام الصفقة ويحتفل بعدها بوجبة عشاء وسهرة موسيقى ورقص ونبيذ فاخر. يُعرف تشانغ بحنكته الاستراتيجية، لا يشتري إلا ما يعرف قيمته، ولا يبيع إلا عندما يعلم أن القطعة ستُقدّر كما تستحق، ولا يهين روائعه عند تدهور الأسعار. وقد تحوّلت بعض قطعه إلى أساطير مزادات، مثل وعاء “فيلانغايا” من أسرة تشينغ، الذي بيع عام 2006 مقابل 151.3 مليون دولار هونغ كونغي. كل قطعة اقتناها كانت تحمل جزءًا من ذاكرته، يختبر فيها الزمن والصنعة والذوق. يقول: “أنا الوحيد الذي يشتري سيراميك بعشرين دولار ويبيعه ب 134 مليون دولار”. لم يكن جامع تحف فقط، بل إن قصته ليست مجرد حكاية جامع تحف، بل هي ملحمة عشق للفن الصيني وكفاح من أجل جمع نفائس الجمال وروائع الإبداع، توّجت بتأسيس صرح تعليمي فريد من نوعه: مؤسسة الخزف الصيني روبرت تشانغ. وقد تجلى هذا التقدير الكبير لشخصيته وعمله في مقالات صحفية صينية مرموقة، تناولت مسيرته بإعجاب وإجلال، معتبرة إياه جسراً حياً يربط الماضي العريق بالحاضر والمستقبل. ولد روبرت تشانغ في عائلة عريقة ذات جذور عميقة في عالم التجارة والفن. منذ نعومة أظفاره، أُحيط بجماليات الخزف الصيني، وبدأ ولعه يتشكل مع كل لمسة لأواني البورسلين المزخرفة، ومع كل قصة تُروى عن حكايات الأباطرة والفنانين الذين أبدعوا هذه الكنوز. لم يكن شغفه مجرد هواية عابرة، بل تحول إلى رحلة استكشافية عميقة في تاريخ وثقافة الصين، قادته إلى أبعد الزوايا لجمع أرقى وأندر قطع الخزف. ولم يكن تشانغ مجرد جامع عادي، بل كان باحثًا نهمًا، يلتهم المراجع والكتب التاريخية، ويقضي الساعات الطوال في دراسة تقنيات الصناعة، وتتبع خطوط التطور في الفن الخزفي عبر العصور. لقد بنى تشانغ لنفسه مكتبة ضخمة تضم مئات المجلدات والمخطوطات النادرة عن الخزف الصيني، مما جعله مرجعًا عالميًا في هذا المجال. ولم يتوقف عند المعرفة النظرية، بل غاص في عمق الحرفية، فزار أفران الخزف القديمة، وتحدث إلى الحرفيين المهرة، محاولاً فك شفرات الأسرار التي توارثتها الأجيال.

“نمبر وَن” روبرت تشانغ Read More »

إنعام سعيد.. رسّامة الحياة الهامشية

في ركنٍ هادئ من تاريخ الفن المصري، حيث تضيء أضواء نجوم الإبداع كثيرًا، توجد أسماء الجذور العميقة لشجرة الفن الحديث والمعاصر، لا تُرى من بعيد، لكنها تمسك الأرض بثبات وتثمر الجمال. من بين هذه الأسماء، تبرز الفنانة إنعام سعيد كصوت تشكيلي فريد، استطاع أن يُنطق الرصاص على الورق، ويُحيل هوامش الحياة الإنسانية إلى سردٍ بصريّ هادئٍ ومهيب. سيرة فنّانة… زرعت الفن في الصمت: وُلدت الفنانة في بداية القرن العشرين، وجاءت من خلفية تؤمن بقيمة التعليم والثقافة، فانطلقت مبكرًا إلى بعثة لبريطانيا 1926، حيث درست الفن في وقتٍ كانت فيه هذه الخطوة نادرة، بل ثورية. حصلت على دبلوم هيئة التعليم البريطاني في الرسم عام 1929، دبلوم جرافِك عام 1931، وشهادة تدريس الرسم والفنون، ما أهلها للعمل كأستاذة فن في المعاهد العليا. عادت إلى مصر، لا لتستكين، بل لتقود الحراك. أسهمت في تأسيس قسم الفنون الجميلة في المعهد العالي للمعلمات، وتقلّدت فيه منصب “وكيلة المعهد”، وساهمت في تشكيل وعي فني نسائي ظلّ ممتد الأثر. أن تكون فنانة مصرية في الثلاثينيات، ومُعلّمة للأخريات، يعني أنك تحملين أكثر من فرشاة، تحملين رسالة. مكانة ثقافية مكرّسة للصمت النبيل، فلم تكن إنعام سعيد مجرّد رسّامة موهوبة، بل واحدة من الأصوات النسائية الرائدة والمؤسسة للحركة التشكيلية المصرية. انخرطت في جماعة “الفن والحياة” بقيادة الفنان حامد سعيد، تلك الجماعة التي مزجت بين الفن والحياة اليومية، وحاولت استكشاف الجمال في المألوف والبحث في خفايا الحياة. كانت عضوًا فعّالًا في جمعية محبي الفنون الجميلة جيل المؤسسين، وشاركت في معارض مصرية عديدة. وقد نالت ميدالية صالون القاهرة للفنون عام 1934، ثم ميدالية اليوبيل الذهبي لكلية التربية الفنية عام 1989، اعترافًا بفضلها الكبير في تكوين ذاكرة مصر البصرية والتعليمية. الواقعية المتأملة: الفن حين يصبح مرآةً للكرامة. في لوحاتها البارزة التي تعود إلى أواخر حياتها، رسمت إنعام سعيد امرأة كبيرة، بوجهٍ متعب، وجسدٍ ينوء بثقل الأيام. ترتدي جلبابًا ريفيًا، وغطاء رأسٍ بسيط، وتقبض بيدٍ على إبريق فارغ كأنما هو ما تبقّى لها من العالم. الخطوط الدقيقة والمدروسة، والظلّ الذي يزحف على ملامحها، لا يقدمان مشهدًا من الشفقة، بل مشهدًا من التأمل الهادئ في قسوة الحياة وكرامة الكفاح الصامت. في عمل آخر، تُجسّد سيدة تجلس على مقعد خشبي مهترئ، تحتضن موقدًا معدنيًا، وكأنها تحتضن الزمن ذاته. الإضاءة هنا تنبع من داخل الشخصية، لا من الضوء الخارجي. العينان الغائرتان، والوجه المنحني، والأصابع المتورمة، السلة والكرتون والموقد فارغ بلا طعام، كلها تفاصيل لا يمكن قراءتها إلا من خلال فنانة تعرف جيدًا معنى الكدح، ومعنى أن تكون امرأة في عالمٍ قاسٍ. أما ذروة المشهد التشكيلي فتأتي في اللوحة التي تُجسّد امرأة بائعة خضروات تجلس وسط السوق، محاطة بالصناديق والخضروات، وتحدق في فراغ الشارع. خلفها، مئذنة أمامها تتكدّس مبانٍ قديمة متداعية، نوافذها مفتوحة على المجهول، بينما يتسلل ضوء خفيف كأنه أملٌ مشوش. هنا تكمن عبقرية إنعام سعيد؛ جعلت من هذه المرأة رمزًا لقاهرة لم تكتبها الصحف، بل عاشها البسطاء في صمت. قلم رصاص: في أعمال إنعام سعيد لا نجد محاولة لاستعراض المهارات، بل التزامًا هادئًا بالجمال البسيط، بالكائن الهامشي، بالإنسان المضاف إليه أو المفعول به. أجساد متعبة، أنامل متشققة، نساء يجلسن على أرصفة لا تراها الكاميرات، لكنها أصبحت عبر عيني إنعام جزءًا من ذاكرة الوطن. استخدمت قلم الرصاص كما لو أنه خيطُ فضة، خفيف لكنه جارح. تضع الخط لا لتبني الشكل، بل لتعيد تشكيل روح الإنسان. الظل والنور يتحاوران دون صخب، والملامح لا تبالغ في التعبير، لكنها تفيض بالأثر. من النور للظلام: رغم أن الفنانة لم تسعَ خلف الشهرة، فإن إرثها الفني والتربوي جديرٌ بأن يُعاد اكتشافه. فنانة ومُعلمة، واقعية وصامتة، مؤمنة بقوة الفن على التعبير عن الحياة اليومية. في لوحاتها، نجد مصر الأخرى، مصر العَرَق والخبز، الأرض والنهر، مصر الأمهات المنسيات، والمساءات الخافتة. لقد كانت إنعام سعيد واحدة من أولئك الذين يُشبهون الأشجار الصامتة، لا تُصدر صوتًا، لكنها تمنح ظلًّا وثمارًا لا تُنسى. الأعمال مقاس ٤٠/٥٠سم # مقتنيات_خاصة

إنعام سعيد.. رسّامة الحياة الهامشية Read More »

جون قيج… حين تحدّث اللون بلغة الحضارات

في تاريخ المعرفة، قلّما نلتقي بعالم أعاد تعريف مفردة شائعة في حياتنا اليومية كما فعل المؤرخ البريطاني جون قيج (John Gage) مع “اللون”. هذا المفكر، القادم من أروقة جامعة كامبردج، لم يكن مجرد باحث في الفن، بل كان مؤرخًا لواحدة من أعقد لغات البشرية: اللون بوصفه رمزًا وثقافةً وسؤالًا فلسفيًا. في زمنٍ بات اللون فيه أقرب إلى قرارات تسويقية أو ذوق بصري لحظي، جاءت كتب قيج كدعوة للتأمل العميق: هل نرى اللون كما هو؟ أم كما تعلّمت أعيننا أن تراه؟ لون بثلاثة أبعاد: فن، علم، ومعنى يُعد كتابه الأهم “اللون والثقافة: من العصور القديمة إلى التجريد” (Color and Culture) من أبرز ما كُتب في هذا الحقل. لا يقدّم فيه قيج دراسة عن الألوان بوصفها طيفًا فيزيائيًا أو تقنيات فنية فحسب، بل كـ مرآة للتاريخ البشري: من أقمشة الكهنة، إلى دروع المحاربين، إلى أيقونات القديسين، وحتى أعلام الثورات. أما في كتابه الآخر “اللون والمعنى” (Color and Meaning)، فقد فتح بوابة الفهم الفلسفي والرمزي للون، فمثّل اللون الأحمر مثلًا ليس فقط كصبغة دموية، بل كلون الملوك والآلهة والعقوبة والحرب… حسب السياق والحضارة. بين نيوتن وغوغان… اللون في مسرح التاريخ قسّم قيج فهم اللون إلى ثلاث قوى متشابكة: 1. اللون كظاهرة فيزيائية: كما درسها نيوتن وعلوم البصريات. 2. اللون كتقنية تشكيلية: كما تعامل معه الرسامون في لوحاتهم. 3. اللون كرمز ثقافي: كما حُمّل معاني مختلفة في الأديان والأساطير. في هذا السياق، درس قيج كيف عبّر بول غوغان عن التمرد بلون الجلد الداكن، وكيف رأى موندريان في الأصفر والأحمر والأزرق خلاصات فلسفية، وكيف حملت جداريات مصر القديمة دلالات لونية دقيقة تشير إلى العقيدة والمكانة الاجتماعية. فكر اللون… ما بعد العين: ما ميّز قيج، أنه لم يكتب للفنانين فقط، بل للمثقفين والفلاسفة والمؤرخين وحتى علماء الأعصاب. فالألوان، بحسب أطروحاته، لا تدخل إلى عقولنا محايدة، بل مثقلة بثقافاتنا وتجاربنا. الأبيض في أوروبا رمز للزفاف، بينما في الصين رمز للموت. الأسود في الغرب يعني الحداد، وفي اليابان يدل على الشرف. بهذا الطرح، جعل قيج اللون أداة تحليل حضاري لا تقل شأنًا عن اللغة أو المعمار. إرثٌ أكاديمي لا يبهت: تُدرّس كتبه في أقسام الفن والتصميم والفلسفة حول العالم. وظلت بحوثه تُلهِم جيلاً من الباحثين لفهم العلاقة بين اللون والهوية والسلطة والجمال. وترجمت بعض أعماله إلى لغات متعددة، كما احتفى به متحف فيكتوريا وألبرت في لندن، ومتاحف كامبردج، وكُتب عن مشروعه الفكري في مجلات أكاديمية مرموقة مثل Art Bulletin و The Burlington Magazine. أكثر كتبه شيوعا: 1. Color and Culture: Practice and Meaning from Antiquity to Abstraction (اللون والثقافة) أهم كتبه، صدر عام 1993. يُعدّ مرجعًا أساسيًا في تاريخ اللون. غطى علاقة اللون بالفن والدين والفلسفة والعلم من العصور القديمة إلى الحداثة. تناول مفاهيم اللون عند المصريين، الإغريق، القرون الوسطى، عصر النهضة، ثم الانتقال إلى التجريدية. 2. Color and Meaning: Art, Science, and Symbolism (اللون والمعنى) يتعمق في معاني الألوان عند الفنانين والعلماء. ناقش رمزية اللون، تأثره بالضوء، تقنيات مزجه، دلالاته الثقافية. عرض دراسات حالة لفنانين مثل تيرنر، غوغان، موندريان وغيرهم. 3. The Art of Colour: The History of Colour in Art (فن اللون) كتاب مصوّر، أكثر تبسيطًا بصريًا، يُظهر تطبيقات اللون في الأعمال الفنية الكبرى. مفيد للفنانين والطلبة لفهم كيف تغير استخدام اللون عبر العصور. خاتمة: حين نقرأ جون قيج، ندرك أن اللون لم يكن يومًا مجرد ما تراه العين، بل هو ما تراه الذاكرة والمعتقد والهوية. لقد منحنا أدوات لرؤية اللوحات والعمارات والملابس والأعلام برؤية أكثر تعقيدًا وثراءً. ومن خلاله، بات بوسعنا أن نفهم كيف صارت البشرية ترسم ذاتها باللون. في النهاية، رحل جون قيج في 2012 بعمر 73 سنه انكب في أغلبها على دراسة اللون من عدة زوايا علمية وإنسانية. ترك إرثا ملهما؛ كتب وأبحاث ومقالات ومحاضرات تفتح آفاقا واسعة للبحث أبعاد اللون محليا سوسيولوجيا، ثقافيا، سيكلوجيا…. وووالخ من مناظير بحثية. الرابط التالي يسرد مزيدا من سيرته وإنجازاته. John Gage: Art historian who established himself

جون قيج… حين تحدّث اللون بلغة الحضارات Read More »

عبدالحليم رضوي… حين رسمت مكة بريشة أوروبية 

في زمنٍ لم يكن الفن التشكيلي فيه أكثر من زينة هامشية للغاية في الحياة السعودية، وُلد طفلاً من أزقة مكة المكرمة يحمل في يديه الفحم والأقمشة، ويرى في البلاط والزخارف أكثر مما يرى الناس في الكتب. ذلك الشاب، الذي تحدّق في الأشكال قبل الكلمات، وتعلّم من المآذن والناس أكثر مما تعلّم من الدروس، سيغدو لاحقًا أحد مؤسسي الفن التشكيلي الحديث في المملكة، وأول من رسم مكة بلغة أوروبيةٍ، دون أن يُفرّط في ملامحها الأصلية. مكة… حيث تبدأ الحكاية: ولد عبدالحليم حمزة رضوي عام 1939 في قلب مكة، أم القرى التي هي مسرحًا هائلًا للرموز البصرية الإسلامية، بتنوّع سكانها وزوّارها، وبكل زخارفها، وخطوطها الهندسية، وتداخلاتها الروحية. ترعرع في بيئة محافظة لم يكن فيها للفن أهمية شرعية أو اجتماعية. لكنه، ومنذ صباه، كان يرى الجمال في بلاط الساحات، وفي النور المتسلل من المشربيات، وفي الحرف العربي المنقوش على جدران المساجد. كان الفن عنده فطرة، لا قرارًا. من مكة إلى روما… الرحلة الكبرى: لم تكن روما في الستينيات مجرد مدينة بالنسبة للرضوي، بل كانت مختبرًا عالميًا لصياغة الحداثة. هناك، التحق بأكاديمية الفنون الجميلة بروما، لينهل من معين المدارس الغربية: التعبيرية، التكعيبية، التجريدية، السريالية، وكل ما كان يُنتج تحت مظلة “الما بعد” في أوروبا. لكنه لم يكن مقلّدًا، بل مبتكرًا. أدخل الخط العربي والزخرفة الإسلامية في تكوينات سريالية تارة، وتكعيبية وتجريدية تارة أخرى. زاوج بين الروح الشرقية والصرامة المادية الغربية، وخرج بأسلوبه الذي سيُعرف به لاحقًا، حيث يتحوّل الرمز الإسلامي إلى عنصر حداثي، لا مجرد تراثي. في أحد معارضه الأولى في روما، كتب ناقد فني إيطالي: “لوحاته تبدو كأنها صلوات بصرية… إنه يرسم الشرق كما لا يعرفه الغربيون، لا بالصحراء والتمائم، بل بالخطوط والرموز والصفاء المعماري.” العودة إلى جدة… التأسيس والمقاومة: عند عودته إلى السعودية بعد أن أنهى دراسته، وجد أن المجتمع لا يزال يراوح بين الريبة والرفض تجاه الفنون البصرية. لكنه لم يهادن، واستفاد مع حركات التحديث الثقافي في مجالات الكتابة والأدب والموسيقى والطرب لذاك الجيل. أسس قسم الفنون التشكيلية في جمعية الثقافة والفنون، ودعا إلى تعليم الفن، تنظيم المعارض، ودمج الفن بالتنمية. لم يكن عبدالحليم يملك سلطة ثقافية، لكنه امتلك سلطة الكتلة واللون، التي تفرض هيبتها على المكان. نفذ جداريات ومجسمات ضخمة في مؤسسات حكومية، جامعات، مطارات، وواجهات عامة، أبرزها جدارية مطار جدة وبعض ميادينها، التي تمثل مزيجًا بين الزخرفة الحجازية والحداثة العالمية. كان الرضوي غزير الإنتاج، شارك في عشرات المعارض الفردية والجماعية محليا وعربيا وعالميا، منها بينالي البندقية الذي يُعد الأهم عالميا، ورفع اسم السعودية في العديد من المحافل الدولية، في زمن لم تتاح فرص فيه إلا للقليل من المبدعين أن تعبر الحدود. إرثه… اللون الذي لا يجف: لم يكن عبدالحليم فنانًا نخبويًا، بل رسامًا للروح السعودية كما حلم بها، لا كما وُصفت في كتب المستشرقين، فقد تنقّل بين مدنها مترامية الأطراف ومتنوعة الثقافات. كانت لوحاته مزدحمة بالرموز، لكنها خالية من الضجيج. لا يصرخ فيها اللون، بل يتنفس. لا تُرعبك كثافتها، بل تُقنعك. حتى اليوم، لا يمكن الحديث عن الحركة التشكيلية السعودية دون المرور به. فهو ليس مجرد رائد، بل هو جسر بين زمنين، ولغة بين ثقافتين، ورمز لفنان آمن أن الفن لا يُزهر إلا في بيئةٍ يُروى فيها بالحرية. رحل عبدالحليم رضوي في عام 2006، لكن أعماله لم ترحل. بقيت شاهدة على زمن التأسيس، وشاهدة على المعركة الصامتة التي خاضها، معركة أن يكون الفن جزءًا من الهوية ومعبّرا عنها، لا ترفًا منها. اللغة التشكيلية في أعمال الرضوي: في تتبع المسار البصري لعبدالحليم رضوي، نجد أننا أمام فنان لم يكن يرسم المشهد، بل يكوّنه من الداخل. لم يكن أسير الشكل، ولا تابعًا لمدرسة، بل مؤسسًا لـ”نظام بصري” متكامل ينبثق من تراثه لكنه لا يُقيد به. 1. تكويناته… هندسة الروح والذاكرة: في أعماله، يتكرّر”المثلث، المربع والدائرة”، و”الخط العمودي”، لكنها لا تُستخدم كأشكال هندسية مجردة، بل كعناصر تنظم العلاقة بين مكونات الداخل والنظرة من الخارج، بين المركز والهامش، بين الأرض والسماء. تُذكّر بعض أعماله بنوافذ المساجد، أو بشبابيك البيوت الحجازية، لكن هذه الاستدعاءات ليست توثيقية، بل حركية؛ تتكرر العناصر بصيغة إيقاع بصري، يُدخل المتلقي في حال من التأمل والتنقل داخل فضاء اللوحة. تكوينه لا يعتمد المنظور الغربي التقليدي، بل على منظور “مركزي – زخرفي”، حيث كل العناصر تدور حول مركز رمزي، غالبًا ما يكون مشعًا أو محاطًا بكتل لونية كمدار فلكي سرمدي، وبعضها كطواف روحي بالبيت العتيق. 2. اللون عند رضوي… طاقة لا وصف: اللون في لوحاته ليس تلوينًا، بل نبض روحي. الأزرق عنده ليس ماءً ولا سماءً، بل امتدادًا لبرودة الروح. الذهبي ليس زينةً بل طيفًا إسلاميًا يُحيل إلى قباب الذهب في العمارة المكية. أما الأحمر، فهو صوت داخلي؛ لا يغضب، بل يُصلي. يميل إلى الألوان الصريحة (البنفسجي، التركوازي، الأحمر) دون مزج أو تدرج سطحي. وهذا يعود لاقتناعه بأن اللون قوة مستقلة، لا تابع للشكل. لوحاته لا تُقاس بدرجة الضوء والظل، بل بوزن اللون في التكوين. أحيانًا تكون المساحة الصغرى (خطًا زهريًا أو أصفراً) أقوى من الكتل اللونية المهيمنة، لأنه يعرف كيف يوظّف التوتر البصري في خدمة الانفعال الروحي. 3. الخط العربي… من نص إلى شكل: لم يتعامل رضوي مع الخط العربي بوصفه جملة تُقرأ، بل بوصفه بنية بصرية تُرى وتُشعر. كان يحذف المعنى اللغوي ليُعيد بناء المعنى الشعوري. يتحوّل الحرف عنده إلى مئذنة، إلى زينة، إلى صدى صوت داخلي. ولم يستخدم الخط والكتابة بأسلوب الديكور كما فعل بعض معاصريه، بل جعله أداة تشكيليّة تحمل في ذاتها بعدًا رمزيًا، فتتكرّر الحروف لا لتُعبّر، بل لتبني إيقاعًا بصريًا يُقارب الشعر الصوفي. 4.الرقص والموسيقى في أعماله: رسم الرضوي في عدة أعمال ووثّق الرقصات والعرضات واللعب الشعبي من مختلف أرجاء المملكة الثرية بالتنوّع الترفيهي الثقافي، بطريقة تعبيرية تبرز فيها الإيقاعات والحركات المثيرة في هذا اللون من فنون الرقص. 5. من اللوحة إلى الجدار: اتساع الجسد البصري: في انتقاله من اللوحة الصغيرة إلى الجدارية، لم يفقد رضوي السيطرة على التكوين. بل العكس، الجدارية كانت عنده امتدادًا عضويًا للوحة، لا مجرد تضخيم لها. الجدارية عنده ليست عرضًا للبراعة، بل جغرافيا للانتماء البصري. يملأ الحائط كما يملأ الفنان روحه، فلا يترك مساحة فارغة إلا لتُشير إلى الغياب، ولا يملأ مساحة إلا وتكون عامرة بالمعنى. ختاما، تجربة عبدالحليم رضوي ليست مجرد مزيج بين الحداثة والتراث، بل تجربة تركيب بصري معقدة أعادت تعريف الزخرفة، وأعادت الاعتبار للرمز الإسلامي في زمن كانت فيه الحداثة تُساوي القطيعة. لقد نجح في بناء فن لا يقلد الغرب، ولا ينعزل عنه، بل يُحاوره بنديّة. وكان هذا جوهر مشروعه، ليس أن يكون فنانًا سعوديًا ناجحًا، بل أن يكون صاحب لغة خاصة، ناطقة بجمالٍ لا يمكن

عبدالحليم رضوي… حين رسمت مكة بريشة أوروبية  Read More »

التطور في الفن

في مشوار الفنان التشكيلي، تشكّل التمرينات والدراسات اليومية والرصد المتكرر للحركة والكتلة والفراغ نقطة الانطلاق لنمو وتطور اللغة البصرية. يتجلى هذا المسار بوضوح في هذين الاسكتشين النادرين المبكرين للفنان المصري-الفرنسي سيد درويش، واللذين يعودان إلى أواخر الستينيات وأول السبعينات . نراهما ليس فقط كدراسات شكلية للجسد الإنساني، بل كوثيقة فنية تكشف تحوّل الرؤية من الواقعي إلى التجريدي، ومن الظاهر إلى الجوهر الحركي. الاسكتش الأول، المنفذ بقلم رصاص، يحمل عنوانين لافتين كُتبا بخط اليد: “Balance” و “Rhythm” – التوازن والإيقاع. ونجد فيه مجموعة من الدراسات التشريحية المختصرة، تُركّز على توزّع الوزن، حركة الجسد والمفاصل، وانسياب الطاقة في الوضعيات المختلفة. كل خط هنا مدروس، متزن، يحاور الكتلة والحركة، ويحمل حسًا تشكيليًا لا يزال متأثراً بتشريح وتحليل ونسب وانسجام المدرسة الأكاديمية، لكنّه لا يخلو من مغامرات حسية في التبسيط والاختزال. أما الاسكتش الثاني، المنفذ بالحبر الأسود، فيأخذنا خطوة أبعد في التحوّل من المشهد الفيزيائي إلى المجرد الحركي. فقد تحرّر الخط من قيود الشكل الوصفي وتفاصيله غير المثيرة، وصار يتبع الإيقاع الداخلي للحركة. هنا تصبح الخطوط راقصة، لينة، موجات طاقة اختزلت حركة الجسد في جوهره الإيقاعي. وهذا التحوّل اللافت يؤشر إلى النضج الفني في القدرة على رؤية ما وراء الشكل، عند القلب أو المركز النابض، إلى ما يسميه كثير من منظّري الفن “الطاقة الخفية” أو عند الفلاسفة ب “الهيولي”. إن متابعة عشرات الصفحات لتراث هذا الفنان الكبير ترينا كيف يبدأ الفنان الناشئ من الرصد الواقعي، ثم شيئًا فشيئًا، مع التكرار والتأمل والتجريب، تتطور أدواته التعبيرية، وتتعمق رؤيته. وهذا النمو لا يحدث فجأة، بل يمر عبر ما يشبه “رياضة العيون واليد”، يتدرّب فيها الفنان على الإمساك بالزمن، بالوزن، بالإيقاع. هنا، يشكّل الاسكتش وسيلة بصرية للحفر في المفهوم، وليس مجرد تمرين. ومن المهم أن يدرك طلاب الفنون الجميلة والتصاميم والهندسة أهمية هذه التمارين الأولية، التي قد تبدو بسيطة أو غير مكتملة، لكنها اللبنات الأساسية التي تُبنى عليها اللغة الشخصية لكل فنان. إن الفارق بين الاسكتشين ليس فقط في الأدوات أو الأسلوب، بل في الوعي البصري الذي نضج، واتسع، وتعمّق. هكذا تتحوّل الخطوط من وصف لحركة، إلى تجسيد لنبضها. وهكذا يُصبح التمرين اليومي – حتى في أبسط أشكاله – جزءًا من رحلة الاكتشاف، لا تقل أهمية عن اللوحة النهائية. ختاما، تُظهر هذه الرسومات الأولية للفنان سيد درويش كيف يمكن للاسكتش أن يكون مرآةً لنمو داخلي وفني عميق. إنها دعوة مفتوحة لطلاب الفنون والمبدعين الناشئين للثقة في تدريباتهم، للانغماس في الرسم كأداة تأمل وتجريب واكتشاف، ولإدراك أن التجريد ليس هروبًا من الواقع، بل غوصٌ أعمق في إيقاعه الحقيقي. مقاس الأعمال A4 & A5 #مقتنيات_خاصة #د.عصام عسيري

التطور في الفن Read More »

تجريدات اليمن : قراءة في لغة النور والظلام

في قلب المشهد التشكيلي العربي، يبرز اسم الدكتور ياسر العنسي، فنانًا وأكاديميًا يمنيًا، مفكرا وناقدا تشكيليا ينسج من خيوط التراث والمعاصرة نسيجًا فنيًا فريدًا. أعماله التي نتأملها اليوم، تقدم لنا نافذة على عوالم بصرية عميقة، حيث يلتقي التجريد بالتعبيرية، ويتحاور الضوء مع الظل، ليروي حكايات من صميم الوجدان الإنساني والبيئة اليمنية بأبعادها الرمزية والفلسفية. الدكتور ياسر العنسي أبو عمار : رائد فني ومثقف أكاديمي قبل الغوص في تفاصيل لوحاته، يجدر بنا التوقف عند مكانة الدكتور العنسي وسيرته. بصفته حاصلًا على درجة الدكتوراه في الفنون التشكيلية، يجمع العنسي بين الممارسة الفنية الخالصة والتنظير الأكاديمي الرصين. هذه الخلفية المزدوجة تمنحه رؤية فريدة؛ فهو لا يكتفي بابتكار الجمال، بل يفكك مفاهيمه ويشرح أبعاده. مسيرته الأكاديمية كأستاذ جامعي في الفنون، إلى جانب مشاركاته المتعددة في المعارض الدولية والمحلية، جعلت منه صوتًا مؤثرًا في تطوير الحركة التشكيلية اليمنية، ومرجعًا لأجيال من الفنانين الشباب. إنه ليس مجرد رسام، بل هو باحث وفيلسوف ومؤرخ يرى في الفن لغةً للوجود والتعبير عن مكنونات النفس وعمق المكان. الأعمال المعروضة: حوار الأشكال والألوان تتكون السلسلة المعروضة من ثلاث لوحات، اثنتان منها مستطيلتان (30×60 سم) وواحدة مربعة (40×40 سم)، كلها تعود لعام 2013. على الرغم من اختلاف المقاسات، إلا أنها من بالتة واحدة وتشكّل وحدة فنية متكاملة، تتشارك في لوحة ألوان مميزة وتيمات بصرية متكررة. 1. اللوحة المربعة (40×40 سم): “إيقاع حضري” هذه اللوحة هي مركز السلسلة، بتكوينها المتوازن الذي يوحي بثبات وتمركز. تغرق المساحة العلوية في سواد كثيف يتخلله تدفق من الأشكال الشبيهة بالأوراق أو القطرات الزرقاء والخضراء الداكنة كأنها رسائل الظلام، مما يخلق إحساسًا بالعمق الغامض أو ربما سماء ليلية مثقلة بالأسرار. في المنتصف، تتمركز مساحة برتقالية ورمادية اللون، كأنها مزهرية أو إناءً عتيقًا، تعكس دفئًا وحياة. تنبثق منها أشكال صفراء وبيضاء قوية، بضربات فرشاة طويلة جريئة، توحي بكتلة ضوئية متوهجة وطاقة لون ينمو في الفراغ، كرمزٌ للأمل أو للوجود المزدهر بين الظلان والنور. على جانبي الإناء، تتجلى أشكال معمارية مجردة بلون الطين الفاتح والرمادي، تذكرنا بالعمارة اليمنية التقليدية المبنية من الطين أو الحجر. الانعكاسات المائية في الجزء السفلي من اللوحة، بألوانها المتداخلة من الأصفر والأزرق والبرتقالي، تعطي إحساسا وتضيف بعدًا من التأمل. إنها لوحة تتحدث عن التوازن بين الطبيعة والبيئة والإنسان، بين الظلمة والنور، وتوحي بحياة تستمر وتزهر في قلب بيئة غنية بتاريخها. 2. اللوحة المستطيلة اليمنى (30×60 سم): “صعود وانحدار: قصة إنسان وأفق” تتميز هذه اللوحة بتكوين عمودي يشد العين نحو الأعلى. السواد الكثيف في الجزء العلوي يعود ليفرض هيمنته، لكنه يتخلله هذه المرة بقع ضوئية حمراء وبرتقالية، تتناثر كجمر متوهج أو أضواء خافتة في الأفق البعيد، ربما تمثل وميض الأمل أو الذكريات. في الجزء الأوسط، نرى مشهدًا ديناميكيًا من الألوان الترابية والرمادية، حيث تختلط درجات الأصفر والبرتقالي، وتتراقص عليها دوائر وفقاعات بيضاء وسوداء، تضفي حركة وإيقاعًا. هذا الجزء يمكن أن يمثل أفقًا مضطربًا أو أرضًا وعرة. ما يلفت النظر بشكل خاص هو الشكل العمودي الأحمر في المنتصف، والذي يبدو كعامود أو علامة طريق، يؤكد على حالة من التوجيه أو نقطة محورية. في الجزء السفلي من اللوحة، يظهر شكل بشري مجرد، بلون أبيض رمادي، يقف وحيدًا في مساحة واسعة من اللون الفاتح، وكأنه يواجه هذا الأفق الغامض. هذا الشكل يضيف بعدًا إنسانيًا عميقًا للوحة، يوحي بالتأمل، البحث، أو حتى العزلة في مواجهة المجهول. 3. اللوحة المستطيلة اليسرى (30×60 سم): “برج الظلال ونجوم الأمل” (تسمية مقترحة) تتشابه هذه اللوحة مع سابقتها في الشكل العمودي تكوينيا والسواد المهيمن في الجزء العلوي لونيا، لكنها تختلف في التفاصيل السردية. يظهر في الأسفل برج رمادي ضخم، يشبه برجًا يمنيًا قديمًا، ببساطته وتجلياته المعمارية، يقف راسخًا في قاعدة بيضاء ناصعة. هذا البرج، رغم بساطته، يرمز إلى الصمود والتاريخ العريق. المنطقة الوسطى تحمل إحساسًا بالانتقال والتغير، حيث تتداخل الألوان الترابية مع الرمادي والأزرق الداكن. يظهر قوس أحمر ساطع في هذه المنطقة، يضيف ديناميكية وربما يرمز إلى شروق أو غروب، أو حتى شعاع ضوء يخترق الظلمة. تتساقط من السماء المظلمة في الأعلى نقاط ضوئية صفراء وبيضاء، متناثرة كنجوم بعيدة أو وميض حياة، تكسر رتابة السواد وتضفي إحساسًا بالأمل والسكينة. تبرز في الأفق البعيد أشكال معمارية أخرى، غارقة في الظلال، مما يعزز الإحساس بعمق المشهد الليلي. لغة العنسي الفنية: بين التراث والتجريد الدكتور ياسر العنسي لا يرسم المناظر الطبيعية اليمنية بشكلها الحرفي، بل يستلهم منها جوهرها ويلغي تفاصيلها المملة أو غير المثيرة. العمارة اليمنية القديمة، بأبراجها وخطوطها المميزة، لا تظهر هنا كرسوم توضيحية، بل كأشكال مجردة، كتل لونية، وخطوط هندسية تشكل جزءًا لا يتجزأ من التكوين التجريدي. هذا النهج يسمح له بالتعبير عن روح المكان وهويته دون التقيد بالواقعية الصارمة. إن استخدامه للأسود كخلفية مهيمنة، يتخللها ومضات من الألوان الدافئة، يعكس لعبة الضوء والظل التي تميز المدن اليمنية، حيث تتشابك ظلال المباني القديمة مع وهج الشمس الساطعة. هذا التباين يخلق حالة من الدراما والتأمل، كما لو أن الفنان يدعونا للتفكير في العلاقة بين الماضي والحاضر، بين الغموض والوضوح. مكانة أعماله في السياق الثقافي: تكتسب أعمال الدكتور ياسر العنسي أهمية خاصة في ظل التحديات التي يواجهها الفن والثقافة في اليمن. فهي ليست مجرد لوحات جميلة، بل هي وثائق بصرية لمرحلة زمنية، تعبير عن الصمود والجمال في وجه الصعاب. قدرته على تحويل الواقع المعقد إلى تجريدات معبرة، مع الحفاظ على روح الهوية اليمنية، يجعله فنانًا ذو تأثير عميق. ختاما، إن أعمال الدكتور ياسر العنسي هي شهادة على عمق رؤيته الفنية وقدرته على دمج الموروث البصري اليمني بأسلوب معاصر وتجريدي. هذه اللوحات تدعو المشاهد إلى رحلة تأملية، حيث تتجاوز الأشكال والألوان حدود الواقع المادي لتلامس عوالم أعمق من الرمزية والمشاعر. إنها دعوة للتفكير في الوجود الإنساني، في الأبراج التي نبنيها، وفي النجوم التي تضيء سماءنا، وفي الأمل الذي يتوهج حتى في أحلك الظروف. الدكتور العنسي، من خلال فنه، لا يضيء اللوحات فحسب، بل يضيء دروب الوعي والجمال في نفوسنا. الأعمال #مقتنيات_خاصة #د. عصام عسيري

تجريدات اليمن : قراءة في لغة النور والظلام Read More »

حياة الصورة من السحر الى الشاشة

قراءة فلسفية في رحلة الصورة الإنسانية د.عصام عسيري في زمنٍ تتكاثر فيه الصور بقدر ما تتناقص فيه المعاني، يأتينا الفيلسوف والناقد الفرنسي ريجيس دوبري بكتابه البديع “حياة الصورة” (Vie et mort de l’image) ليقودنا في رحلة فكرية آسرة، تتبع سيرة الصورة منذ مهدها السحري البدائي وحتى شاشاتها المعاصرة التي تسكن يوميات الإنسان الحديث. الكتاب، الذي يُعد من أبرز المراجع الفلسفية والنقدية المعاصرة في مبحث “الصور”، لا يتناول الصورة كشيء عابر أو مجرد وسيط بصري، بل ككائن ثقافي وتاريخي له حياة، وطفولة، ونضج، وربما شيخوخة. بين السحر والفن والتقنية: ثلاث لحظات من حياة الصورة يقسّم دوبري “حياة الصورة” إلى ثلاث لحظات كبرى تمثّل محطات تطورها الحضاري: 1. المرحلة السحرية (الصور الطوطمية والمقدسة) في هذه اللحظة الأولى، كانت الصورة سحرًا وطلسما. لم تكن الصورة تمثيلًا، بل حضورًا. يكتب دوبري: “في المجتمعات البدائية لم تكن الصورة تُرى بل كانت تُهاب.” هنا تكمن الصورة في الكهوف، في الجداريات البدائية، في التمائم والأوثان. الصورة آنذاك ليست مرآة، بل قوة خارقة تتجاوز حدود الزمان والمكان، وتمنح للغائب حضوره، وللميت استمراره. 2. المرحلة الفنية (الصورة كتمثيل وجماليّة) مع صعود الفنون، خصوصًا في الحضارة اليونانية والرومانية ثم عصر النهضة، تصبح الصورة وسيلة تمثيل. تدخل في حقل الجمال والتقنية. تنتقل من قدسيتها الأولى إلى مرآة للواقع، وتبدأ بالتماهي مع مفاهيم الفن والذوق والرؤية. يقول دوبري: “عندما انفصلت الصورة عن المعابد ودخلت المتاحف، تحوّلت من رمزٍ مقدس إلى موضوع تأمل.” 3. المرحلة التقنية – الصناعية (الصورة كنسق معلوماتي) مع اختراع الطباعة، ثم التصوير الفوتوغرافي، فالسينما، فالشاشة الرقمية… تدخل الصورة عالمًا جديدًا. لم تعد مرتبطة بالمكان أو بالندرة، بل أصبحت قابلة للاستنساخ والتكرار والانتشار. هنا تتحوّل الصورة من “كائن” إلى “تدفّق”، وتفقد بعضًا من سلطتها القديمة. “ما كان يُرى مرة واحدة ويُحفر في الذاكرة، صار يُعاد آلاف المرات حتى يفقد معناه.” الصورة بين الحياة والموت العنوان الفرنسي الأصلي للكتاب هو “Vie et mort de l’image”، أي “حياة وموت الصورة”، وهو عنوان إشكالي يستفز القارئ ليتأمل: هل تموت الصورة فعلًا؟ دوبري لا يعلن موت الصورة بالمعنى القاطع، بل يشير إلى تحوّلها الجذري، ويقارن بين الصورة القديمة (التي كانت تتطلب طقوسًا وتأملًا وسياقًا مقدسًا) والصورة الرقمية الحديثة (التي تُستهلك بلا وعي، وتُنتَج بلا حدود). إنها ليست صورة “ميتة”، بل صورة فقدت حياتها الرمزية القديمة. مدرسة “الوسيطية” Médiologie ينتمي هذا الكتاب إلى تيار فكري أسّسه دوبري يُدعى “الميديولوجيا” (Médiologie)، وهو حقل يهتم بدراسة انتقال المعاني من خلال الوسائط (الميديا)، ويبحث كيف تتأثر الأفكار والثقافات بالبُنى التقنية والمادية التي تمرّ عبرها. فالصورة، في هذا السياق، ليست انعكاسًا للواقع فقط، بل وعاء ثقافيّ يتحكم في طريقة إدراكنا للعالم. تأملات نقدية: أين نحن من الصورة اليوم.؟ من خلال قراءة “حياة الصورة”، يجد القارئ نفسه مدفوعًا للتساؤل: ما قيمة الصورة اليوم؟ هل ما زالت الصورة قادرة على التعبير؟ أم تحوّلت إلى ضجيجٍ بصري؟ في زمن التواصل الفوري والذكاء الاصطناعي وتطبيقات التزييف العميق (Deepfake)، هل يمكننا الحديث عن “صدق الصورة”؟ هذه الأسئلة هي جوهر ما يثيره دوبري: “كلما تكاثرت الصور، قلّ ما نراه فعلاً.” خاتمة: دعوة إلى “الوعي البصري” “حياة الصورة” ليس مجرد كتاب عن الفن أو التصوير، بل كتاب عن مصير الإنسانية في زمن الصور. هو دعوة إلى إعادة النظر، لا في الصورة فقط، بل في كيفية نظرنا إليها. في زمن اللايقين، قد يكون الرجوع إلى الصورة بمعناها الأول – كأثرٍ إنساني عميق – هو طريق نحو استعادة بعضٍ من المعنى. حول المؤلف: ريجيس دوبري فيلسوف، كاتب، ومفكر فرنسي (مواليد 1940)، اشتُهر بتأسيسه لحقل “الميديولوجيا”، وكتب في قضايا الإعلام، الصورة، الدين، والسياسة. من أبرز كتبه: “حياة الصورة” “الثورة في الثورة” “الميديا والسياسة” “الله: سيرة غير رسمية” اقتباسات من الكتاب: -“الصورة الأولى كانت صلاة، لا فكرة.” -“ما يُرى لا يُفكر فيه بالضرورة.” -“كل عصر يعطي الصور التي يستحقها.” -“من الصورة التي تُرى بالعين، إلى الصورة التي تُرى بالعقل، يمرّ تاريخ الحضارة”.

حياة الصورة من السحر الى الشاشة Read More »

أدورنو وجماليّات الحداثة: بين السُخف والحقيقة

قراءة في كتاب “نظرية الجمال” (Aesthetic Theory) كان ثيودور أدورنو (1903–1969) أحد أبرز فلاسفة مدرسة فرانكفورت الألمانية، وقد جمع بين الفلسفة، السوسيولوجيا، والنظرية النقدية. في كتابه “نظرية الجمال”، الذي نُشر بعد وفاته في عام 1970 مستخرجًا من مخطوطات سنواته الأخيرة، يقدم أدورنو استعراضًا معمقًا لمفاهيم الفن، الجمال، السخف، والقداسة، في سياق الحداثة الرأسمالية. الفن والحقيقة المحتجزة يُعد الكتاب تتويجًا لطول فترة بحث عن الجماليات بصيغة نقدية شمولية. يشير أدورنو إلى أن الفن الحديث قد اكتسب درجة من الاستقلال الذاتي ضمن الرأسمالية، ما منحه مسؤولية نقد الواقع الاجتماعي، الأهم: “الفن هو النقيض الاجتماعي للمجتمع، لا يمكن استنتاجه منه بشكل مباشر.” الفن بهذا، لا يعكس الواقع، بل يتحداه ويرفض ترويجه، يقف ضد اضطهاد الثقافة والإيديولوجيا. الجمال، القبيح، والقداسة يمضي أدورنو في استكشافاته ليحلل ثلاث مفاهيم جوهرية: -الجمال ليس هدفًا مريحًا، بل شكل من الحقيقة المخفية. -السخف أو القبح هو نقيض لكنه يحمل بقايا نقدية داخليّة: “The darkening of the world makes the irrationality of art rational: radically darkened art.” -المقدس يشير إلى تجربة جمالية تتجاوز الشكل، تُحاكي ما هو بصريًا غيبيّ، ومن ثمّ مقاوم للترسّخ التجاري أو العادي. المحتوى الأكاديمي (Wahrheitsgehalt) يرفض أدورنو فصل الفن عن واقع العالم الاجتماعي، ويطرح فكرة “محتوى الحقيقة” في الجسم، ليس في الإحساس الشخصي بل في التكوين الجمالي ذاته: “Only he understands an artwork who grasps it as a complex nexus of truth, which inevitably involves its relation to untruth.” الصدق الفني يكمن في الموازنة بين الانعكاس الموضوعي والتمرده على الواقع المشوه. اللوحة لا تُفهم إلا إذا كشفنا تشابكها مع خيال الجماعة، تاريخها، ومقاومتها المضمرّة. الفن كمرساة اجتماعية يؤكد أدورنو أن الحداثة غيرت دور الفن: من وظيفة دينية أو تشكيلية إلى نقد اجتماعي غير مباشر. الفن لم يعد رفاهية، بل درع ضد اصطناع الثقافة الجماهيريّة التي تفرغ الإبداع من عمقه وتحوّله إلى منتج مستهلك. لماذا هذه الجمالية صالحة اليوم؟ في عصر المحتوى والتصفية، يذكّرنا أدورنو بقيمة التعبير الفني الذي يتحدى، لا يرفّه. في ظل تنافُر الجمال أو السخرية الرقمية، نقف أمام أسئلة أدورنو عن الجمال المستقل والمتحول. هو دعوة للعودة إلى التفكير النقدي، بعيدًا عن صور الواقع الساذجة، وأمام الفن كمرآة حقيقية، صفراء ومشوشة أحيانًا. ختاما، فن بين الصدق والظلام كتاب “نظرية الجمال” لأدورنو هو محاولة فكرية ضخمة لتأسيس نظرة جمالية ثورية: لا يرضى بالحضور الطقوسي ولا السائد. يربط جمالية الشكل بالمحتوى الاجتماعي، ويضع الفن في صدارة مقاومة الثقافة المستهلكة. في زمن تهيمن فيه الصور الزائفة والخطابات التجارية، يقدم أدورنو قناعة لا تقبل التسوية: الفن المحرّر هو فعل تضاد في أصل جموده. #د/عصام عسيري

أدورنو وجماليّات الحداثة: بين السُخف والحقيقة Read More »

ما بعد نهاية الفن: حين تتحول الفلسفة إلى مرآة للفن المعاصر

ما بعد نهاية الفن: حين تتحول الفلسفة إلى مرآة للفن المعاصر في عصر الصورة تتكاثر فيه الأساليب الفنية وتذوب فيه الحدود بين “اللوحة” و”السلعة”، يأتي الفيلسوف الأمريكي آرثر دانتو (Arthur C. Danto) ليقلب الطاولة على مفاهيمنا التقليدية حول الفن، عبر كتابه الشهير “بعد نهاية الفن” “After the End of Art” الذي صدر عام 1997، مستندًا إلى سلسلة محاضرات ألقاها في متحف واشنطن للفنون. الكتاب ليس مجرد تنظير فلسفي، بل محاولة عميقة لقراءة التحولات الكبرى في مسيرة الفن الغربي، من الكلاسيكية إلى الحداثة ثم إلى ما أسماه “ما بعد الفن”. كان آرثر دانتو (1924–2013) فيلسوفًا وناقدًا فنيًا مرموقًا، وأستاذًا للفلسفة في جامعة كولومبيا، وناقدًا فنيًا لمجلة The Nation لعقود. عُرف بدمجه الفلسفة التحليلية بالفن، وبقراءاته الفلسفية لأعمال معاصرة مثل أندي وارهول ومارسيل دوشامب. ما معنى “نهاية الفن”؟ لا يعني دانتو بـ”نهاية الفن” أن الفن توقف عن الوجود، بل يقصد أن التاريخ الخطي للفن الذي كان يسير نحو هدف (مثل الواقعية، الجمال، الأصالة…) قد انتهى. الفن الآن ليس ملزَمًا بأسلوب أو سردية موحدة، بل أصبح “كل شيء مباحًا”، ويعتمد على فكرته ومفهومه أكثر من شكله أو تقنيته. من الحداثة إلى ما بعد الحداثة، يقدم دانتو تحليلاً نقديًا للانتقال من الفن الحديث الذي سعى للتماهي مع “جوهر الفن” — إلى فن ما بعد الحداثة الذي تفتت فيه المركز، وبرزت فيه اتجاهات مثل الفن المفاهيمي والبوب آرت والفن الأدائي. يرى دانتو أن مارسيل دوشامب، عندما عرض مبولته كـ”فن”، فتح الباب لتعريف جديد للفن لا يستند إلى الجمال أو التقنية، بل إلى سياقه الفلسفي والثقافي. اقتباسات لافتة من الكتاب دور الفيلسوف بعد “نهاية الفن” في مرحلة ما بعد الفن، يرى دانتو أن الناقد أو الفيلسوف أصبح هو من يمنح العمل “شرعيته الفنية”، عبر التأويل الفلسفي. فالعمل الفني لم يعد يُقيَّم بناءً على مظهره، بل على المعنى الذي يُقترح له. وهنا يبرز سؤال جوهري: هل لا يزال هناك “فن” كما فهمناه عبر قرون، أم أننا دخلنا عصر “المفاهيم البصرية” بلا حدود؟ الكتاب في سياق الفكر الغربي، يُقارن دانتو بأفلاطون من جهة، حين يناقش ماهية الفن، وبهيغل من جهة أخرى، لأنه يقتبس منه فكرة نهاية التاريخ. لكنه يذهب أبعد، معلنًا أن الفن تحرر أخيرًا من كل القيود، ودخل في “تعدد لا نهائي من الإمكانيات”. ختاما، “ما بعد نهاية الفن” ليس نعيًا للفن، بل إعلان ولادة حرية جديدة له أو أشكال جديدة من الصور، حيث يغدو كل شيء مشروعًا، والسؤال الأهم ليس “كيف رُسمت اللوحة؟”، بل “لماذا هي فن؟”. في عصر تتسارع وتتعاظم فيه الصور والأفكار، يُذكّرنا دانتو أن النقد الفلسفي لم يعد ترفًا، بل ضرورة لفهم “فن بلا حدود”. الصور من إنتاج ٢٠٢٥م. # عصام عسيري

ما بعد نهاية الفن: حين تتحول الفلسفة إلى مرآة للفن المعاصر Read More »