الثورة الهادئة لفن الجداريات”الجرافيتي”

كانت الجدران شاهدة صامتة على زحف الإسمنت وصراخ المدن تحمل في شقوقها قصصًا من النسيان لكنّ الإنسان بفطرته التي ترفض الفراغ والجمود لم يستسلم لهذا الصمت فكانت الجداريات هي الردّ الأكثر أناقة وعمقًا وفلسفة كاملة لإعادة الحياة إلى الفضاء العام.

ينبع هذا الفن من فكرة بسيطةٍ في مظهرها عميقةٍ في جوهرها أن الجمال حقٌ للجميع وليس حكرًا على صالات العرض المغلقة هو محاولة لاستعادة الذاكرة البصرية للمكان من برودة الروتين و حين يقف الفنان أمام جدارٍ مشوّه، فإنه لا يرى عيبًا يجب إخفاؤه بل يرى تحدّيًا ينتظر حلاً إبداعيًا قد تكون تلك التشققات مجرى لنهرٍ في لوحته أو تصبح البقعة الرطبة سحابةً في سماء خيالية هنا يتحول التشوّه البصري من نقطة ضعف إلى عنصر قوة من ذكرى مؤلمة إلى قصة جميلة.

الفنان باسكيات في بداياته

وقد تجسّدت هذه الفلسفة في أرواح رفضت أن تكون ظلالاً فحوّلت أسطح المدينة إلى متحفٍ حي فهناك “بانكسي” الغامض الذي جعل من الجدران مرايا تعكس قضايا المجتمع بسخريةٍ لاذعة وحساسيةٍ إنسانية فائقة وهناك #جان ميشيل باسكيات الذي انطلق من شوارع نيويورك ليخلق لغة بصرية جديدة

لوحه للفنان بانسكي

مزجت بين الرمز القديم والهم المعاصر وعلى الصعيد المحلي يبرز الفنان السعودي “كلاخ”  كأستاذٍ  يخلق جداريات فائقة الدقة والجمال تُذهل الناظر بتقنيتها البصرية الخلابة التي تلامس حدود الكمال محوّلاً الواجهات الإسمنتية والاماكن المهجوره إلى بوابات تفتح على عوالمَ خيالية.

هذه العملية أشبه بعلاج نفسي للمدينة وسكانها معًا فالعين التي اعتادت على رؤية القبح والإهمال تبدأ تدريجيًا في التشافي كل جدارية كبيرة هي رسالة أمل، تذكير بأن الإبداع قادر على النبوت في أكثر الأماكن قسوة. إنها تخلق حوارًا بين المارّين والمكان، تحوّل المسار من مجرد طريق للمرور إلى مكان للتأمل واللقاء.​

واليوم  بينما تستمر المدن في توسعها الحجري تبقى الجداريات تذكاراً خالداً أن هذه المساحات الإسمنتية مهما اتسعت تظل في حاجة دائمة إلى لمسة إنسان يبحث عن معنى في النهاية، الجداريات هي أكثر من فن هي شهادة على أن البشر حين يلوّنون عالمهم فإنهم في الحقيقة يعيدون اكتشاف إنسانيتهم كل لون يضاف إلى حائط رمادي هو انتصار للجمال على الرتابة وتذكير يومي بأن الإبداع يمكن أن ينبت حتى في أكثر الأماكن قسوة.

error: Content is protected !!