جدة.. كرونيكاس البحر

جدة.. كرونيكاس البحر

"حكايات المدينة التي لا تشيخ"

بقلم/عبدالإله محمد جدع

جدة مدينة يقدّر بعض المؤرخين عمرها بأكثر من ثلاثة آلاف عام،جذورها ضاربة في فجر التاريخ.. بدأت حكايتها مع صيادين اتخذوا البحر مورد رزق وحياة.. ثم جاءت قبيلة قضاعة فاستوطنتها، لتغدو نواة الاستقرار البشري الأول في هذا المكان الذي صار لاحقا بوابة الحجاز.

ومع بزوغ فجر الإسلام، أشرقت جدة على صفحة التاريخ من جديد.. حين قرر الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه عام 26هـ (647م) أن يجعلها ميناءً لمكة بدل الشعيبة.. ومنذ ذلك الحين تحوّلت من قرية صغيرة إلى بوابة الحجاز البحرية.. تستقبل قوافل الحجيج وتزدهر بالتجارة.

أما أهل جدة القدماء – في "جدة التاريخية داخل السور" فقد تميّزوا عن سائر مدن الخليج والسواحل العربية..

لم يكن صيد اللؤلؤ تجارتهم، بل ارتبطوا بالبحر صيدا وتجارة واستقبالا لسفن الحجيج.. فمنهم رجال "المعادي" بحَارة البحر-الذين تولوا نقل الحجيج والبضائع إلى الميناء القديم "البنط"،

ومنهم وكلاء الحجاج المنتشرون بين حارتي البحر والشام – ومن بينهم أسرتي – يفتحون بيوتهم ونُزُلهم - فنادقهم بتعبير اليوم-لضيوف الرحمن قبل إنشاء مدن الحجاج..

وهي بيوت مُشّيدة من "الأحجار المنقبية"، مزدانة بـ"الرواشين" المُطلّة على البحر..لتبقى شاهدة على أصالة العمارة وتفرّد المكان...

كما برع أهل جدة في التجارة، فغدت عبر العصور حلقة وصل بين مكة والعالم.. وتشهد الآثار المكتشفة أن جدة كانت منذ أزمان بعيدة مركزا للتواصل البحري مع مصر وأفريقيا والهند وبلاد فارس.

فجدة ليست مجرد مدينة ساحلية،.بل ذاكرة البحر الأحمر وملتقى الموج والحج والتجارة...

هي العروس التي حملت على ضفافها حكايات الحجيج والتجّار والبحّارة.. وظلت رغم التحولات بوابة الحجاز الأبدية..ذاكرة التاريخ العابقة برائحة البحر وصوت المآذن وفن العمارة.

هكذا تظل جدة.. كرونيكاس البحر، مدينة تتنفس على إيقاع الموج وتكتب فصولها مع المدّ والجزر..

فكل حجر من بيوتها، كل "روشان" مُشْرَع، وكل مئذنة شامخة تشهد أنها لا تشيخ..إنها مدينة تصافح الزمن وتبتسم له، فلا يغلبها..إنما تمنح العصور معنى، وتظل عروس البحر التي لا تنطفئ حكاياتها..

error: Content is protected !!