الرسم بالقلم الرصاص سحر البساطة وعمق التعبير
في عالم الفنون البصرية، حيث تتلألأ الألوان وتتعانق الأشكال، يتربع فن الرسم بقلم الرصاص على عرش من التفرد والجمال؛ فلا زال الأبيض والأسود وما بينهما من طيوف الرمادي يجذب العيون كما سحر الألوان. إنه فن البساطة المطلقة، الذي لا يحتاج إلى أكثر من قطعة صغيرة من الجرافيت وورقة بيضاء، ومع ذلك، يمتلك القدرة على صنع عوالم كاملة من ثنائيات الظل والنور، الحكايات والأفكار والخيال والمشاعر. إنه فن عابر للزمن، يروي تاريخ الإنسانية وتراثها العريق في النقش منذ بداياته الأولى، ويستمر في إبهارنا حتى اليوم.
تاريخ عريق وتطور مستمر:
لم تكن أدوات الرسم بالقلم الرصاص موجودة دائمًا بالشكل الذي نعرفه اليوم. فقبل اكتشاف الجرافيت في إنجلترا عام 1564، كان الفنانون يستخدمون الفضة أو الرصاص لرسم الخطوط الأولية والاسكتشات. كان هذا الاكتشاف نقطة تحول حقيقية. ففي البداية، تم استخدام الجرافيت في صورته الخام، ثم تم تغليفه بالخشب لتسهيل استخدامه، وهو ما يمثل النواة الأولى لما نعرفه الآن باسم "قلم الرصاص".
ومع مرور الزمن، شهدت صناعة أقلام الرصاص تطورات هائلة. في أواخر القرن الثامن عشر، اخترع الفرنسي نيكولاس جاك كونتيه طريقة لخلط مسحوق الجرافيت مع الطين ثم حرقه، مما سمح بإنتاج أقلام بدرجات صلابة مختلفة H&B. هذا الابتكار فتح آفاقًا جديدة أمام الفنانين، ومكّنهم من التحكم في تنغيم درجات الظل والضوء بدقة غير مسبوقة.

مزايا وعيوب:
يتمتع الرسم بقلم الرصاص بعدد من المزايا التي تجعله خيارًا مفضلاً لدى العديد من الفنانين، سواء كانوا هواة أو محترفين.
من أهم مزاياه:
المرونة والبساطة: لا يتطلب أي تجهيزات معقدة أو مساحة كبيرة. يمكن للفنان أن يحمله معه في أي مكان وأن يبدأ بالرسم في أي لحظة، فلا تحتاج سوى ورقة ثخينة وقلم رصاص وممحاة.
القدرة على التحكم: يوفر قلم الرصاص قدرة هائلة على التحكم في نغمات درجات أو قيم خطوط ومساحات الإضاءة والظلال. يمكن للفنان أن يمزج الدرجات المختلفة للحصول على تأثيرات متعددة، من الخطوط الحادة الواضحة إلى التظليل الناعم والمتدرج.
الواقعية والدقة:يعد قلم الرصاص أداة مثالية لرسم التفاصيل الدقيقة وإنشاء أعمال فنية واقعية للغاية، خاصة في فن البورتريه ورسم الطبيعة الصامتة، فيمكن رسم خوط نحيفة كالشعرة.
سهولة التصحيح: يمكن محو الأخطاء وزيادات الخطوط بسهولة، المكتوبة كلغة أو المرسومة كصورة، مما يجعله أداة مثالية للتعلم والتجريب والتعبير.
أما عن سلبياته:
محدودية الألوان: على عكس الرسم بالألوان الزيتية أو المائية أو أصابع الباستِل، يقتصر فن الرسم بقلم الرصاص على درجات الأسود والرماديات. ومع ذلك، يرى العديد من الفنانين أن هذه المحدودية هي في حد ذاتها تحدٍ إبداعي يبرز مهاراتهم، كما في الصور المرفقة. الحساسية للتلف: رسومات قلم الرصاص حساسة للمس أو التلطخ، مما يستدعي استخدام مثبت للرسم للحفاظ على العمل الفني وسرعة حفظه داخل برواز، وتجنيب العمل عن ضوء وحرارة الشمس التي تضر عجينة الورق.
:نصائح أساسية للمبدعين
إذا كنت ترغب في خوض غمار هذا الفن الساحر، فهذه بعض النصائح التي ستعينك على الانطلاق: التعرف على درجات الصلابة: تختلف أقلام الرصاص في درجات صلابتها، والتي يشار إليها بأحرف وأرقام. أقلام (Hard) صلبة وتستخدم للخطوط الخفيفة والدقيقة، بينما أقلام B (Black) لينة وتستخدم للتظليل والدرجات الثقيلة الداكنة. وأقلام HB هي الأقلام المتوسطة التي تجمع بين الصلابة والنعومة.
التحكم في الضغط: حاول التحكم في الضغط الذي تمارسه على القلم فوق الورقة. كلما كان الضغط أكبر، كانت الخطوط أغمق وأثخن وأكثر وضوحًا.
التظليل والدمج: استخدم تقنيات التظليل المختلفة مثل التهشير الخطي المتكرر في اتجاه واحد (Hatching) والتهشير المتقاطع (Cross-hatching) لإنشاء الظلال. يمكنك أيضًا استخدام قطعة من الورق أو القماش لدمج التظليل وتنعيمه.
استخدام المحاية: لا تستخدم المحاية فقط لتصحيح الأخطاء بل يمكن أن تكون أداة لإضافة خطوط وبقع الضوء وتفاصيل أخرى إلى الرسم.
ضع منديلا تحت يدك: يمتص سطح جلد اليد الجرافيت وينقله لمساحات لا ترغب ظهور أي بقع داكنة أو فرك الخطوط الدقيقة أو المساحات الرقيقة.

:فنانون وأعمال خالدة
لقد ترك العديد من الفنانين العالميين بصمات لا تُنسى في فن الرسم بقلم الرصاص منذ نشأتها. من أشهرهم:
ليوناردو دافنشي (Leonardo da Vinci) على الرغم من شهرته بلوحاته الزيتية، فإن دافنشي كان رسامًا عظيمًا بقلم الرصاص، وقد استخدمه لإجراء دراسات دقيقة لجسم الإنسان والحيوانات وأغلب تخطيطاته.





رامبرانت (Rembrandt van Rijn). تميزت اسكتشاته بقلم الرصاص بالبساطة والعمق، والتي كانت بمثابة تحضير لأعماله الزيتية الكبرى.



موريتس إيشر (M. C. Escher): اشتهر برسوماته التي تتلاعب بالمنظور والفضاء، وقد كانت أعماله بقلم الرصاص هي الأساس لأعماله الطباعية المعقدة.

أما في وطننا العربي، فقد لا يخلو مرسم فنان من رسومات بقلم الرصاص، فهي ضمن مراحل إعداد الفنان ومن أصول تكوينه الأكاديمي، منذ تأسيس كليات الفنون أواخر القرن التاسع عشر بالسودان، ثم مصر بداية القرن العشرين، ثم العراق في الثلاثينات، ثم سوريا والسعودية في الستينات، ودول الخليج في السبعينات. كما انتشر استخدام قلم الرصاص منذ فرض التعليم النظامي وتعليم الكتابة والرسم في عموم الدول العربية طوال القرن العشرين ولليوم، وقد يكون بعض الدول العربية تُصنّع أقلام الرصاص للاستخدام المدرسي والمكتبي بدرجة واحدة فقط.
في الختام، يظل الرسم بقلم الرصاص فنًا نبيلًا يختزل جوهر الفن في أبسط أشكاله. إنه ليس مجرد أداة لرسم الأشكال، بل هو وسيلة للتعبير عن الروح، ونافذة تطل على عوالم من الخيال والإبداع. إنه دعوة لكل فنان، وكل محب للجمال وللخيال والإبداع، لاكتشاف سحر البساطة وعمق التعبير في هذه الأداة العبقرية.




