اسكتش

اسكتش ...من مسودات الفنان إلى وثائق التاريخ وسوق الفن

في عالم الفنون البصرية لا يقف الإبداع عند اللوحة الزيتية المعلّقة أو المنحوتة المصقولة، بل يبدأ من لحظة أولى، سريعة، ومرتبكة أحياناً، تُعرف بـ"الاسكتش" أو "التخطيط". هذه الخطوط الأولية التي يظنها البعض مجرد تمرين عابر أو عمل غير مكتمل، سرعان ما تكشف مع مرور الزمن عن قيمتها الجوهرية بوصفها شهادة على ولادة الفكرة، وأثراً حياً على يد الفنان، وعملاً فنياً قائماً بذاته.

جذور تاريخية:

يعود تاريخ الاسكتشات إلى الحضارات القديمة؛ فقد عُثر على تخطيطات أولية على جدران الكهوف في عصور ما قبل التاريخ، حيث كانت الرسوم تمهيداً لتوثيق الصيد والطقوس. في عصر النهضة، ارتقى الاسكتش إلى مرتبة مرجع أساسي في دراسة الفنانين، إذ امتلأت كراريس ليوناردو دافنشي ورامبرانت وغيرهم بآلاف التخطيطات، ليس فقط كتحضير لأعمال كبرى، بل كفضاء للتجريب ورسم الملاحظات العلمية والفكرية. وفي القرن العشرين، أصبحت كراريس بيكاسو وماتيس وسلفادور دالي وغيرهم منجم أسرار يكشف عن كيفية صناعة العبقرية.

الاسكتش كوثيقة:

ما يمنح الاسكتش هذه القيمة هو كونه وثيقة مباشرة وصادقة، غير خاضعة لرقابة الفنان على النتيجة النهائية. فالخطوط المرتبكة، والإلغاء، وإعادة المحاولة، ومن العشوائية للتنظيم كلها تكشف عن العقل الباطن لحظة انشغال اليد بالرسم. ولهذا السبب، ينظر مؤرخو الفن إلى التخطيطات كأرشيف بصري، يضيء على مناهج الفنانين وأساليبهم، ويملأ الفجوات التي لا تشرحها الأعمال المكتملة وحدها.

من التمهيد إلى العمل المستقل:

مع تطور الحداثة وما بعدها، لم يعد الاسكتش مجرد "خطوة أولى" قبل اللوحة، بل صار في كثير من الأحيان عملاً قائماً بذاته يُعرض في المتاحف ويُقتنى في المزادات هذا التحول ساعد على إعادة الاعتبار للتلقائية والعفوية بوصفها قيمة جمالية، بعيداً عن ثِقل الإتقان المبالغ فيه.

سوق الاسكتشات:

في سوق الفن العالمي ارتفعت أسعار الاسكتشات لتنافس أحياناً اللوحات الكبرى خصوصاً إذا ارتبطت بأسماء لامعة فمنذ أشهر قليلة عُرض عليّ اسكتش أكبر من شاشة الجوال ثمنته بعد دراسة الفنان وسوقه بين ٣٠-٥٠ الف دولار. فمخطوطات دافنشي على سبيل المثال تُقدّر اليوم بالملايين، واسكتشات بيكاسو تُباع كأعمال متحفية

في العالم العربي بدأ سوق الاسكتشات يخطو خطوات أوسع حيث يلتفت مقتنو الفن إلى قيمة هذه الأعمال كوثائق أصلية وبصمات شخصية للفنان، فضلاً عن أنها غالباً أقل سعراً من الأعمال النهائية، ما يجعلها مدخلاً جيداً لهواة الجمع والمستثمرين الجدد.

الاسكتش العربي المعاصر: شهادات بصرية

من النماذج الحيّة لهذا الفن اسكتشات عدد من الفنانين المصريين:

عاطف الشافعي: Atef Alshafee يقدّم تخطيطات غنية بالتفاصيل، تقترب من الواقعية التسجيلية، حيث يلتقط مشاهد الحياة والعمل، كما في مشهد العمال الذي يحاكي نبض الشارع المصري. هنا يتحول الاسكتش إلى سجل اجتماعي وذاكرة بصرية.

مها إبراهيم Maha Ibrahim : فنانة شابة تستثمر لغة الخطوط الحرة والانفعالية، أقرب إلى التعبير الرمزي، حيث يبدو التخطيط في أعمالها تجسيداً للقلق الإنساني والبحث النفسي. خطوطها تشبه بوحاً سريعاً يتجاوز حدود الشكل إلى الكشف عن الروح.

العم دانيال Daniel Salmo : يشتغل على الاسكتش بروح التعبير الوجداني البصري، حيث تتجاور الأشياء والذكريات: ألعاب الطفولة وحياة وعلاقات الناس، لتتحول الورقة إلى مشهد أرشيفي يتقاطع فيه الخاص والعام، التعبير الفردي الحر مع الوعي والذوق الجماعي .

ولا تقف التجارب والأمثلة الجميلة لفن الاسكتش المصري عند جيل سيد درويش ومن قبله من رواد، بل استمرت بغزارة عند طلبة كليات الفنون والتصاميم والهندسة وكل مراسم الفنانين اليوم.

أما في الفن السعودي فإن استديوهات الفنانين والمكاتب الهندسية تضج بالأفكار والتجارب والدراسات والنقاشات المرسومة، لعل من أهمها مشاريع التنمية الحكومية والأبراج والمولات التجارية والتخطيط الحضري، ومن أجمل التجارب التشكيلية الورقية والرقمية لفن الاسكتش السعودي تجارب الفنان محمد الرباط Mohammed Rubat ، الذي نجده يحاور الإنسان والحصان والمباني والتراث بخطوط لينة بمنحنياتها تجذب عين المتلقي بحنيّة.

هذه الأعمال –رغم اختلاف أساليبها غير المحكومة بنظام أو زمن– تشترك في كونها مقاس A4 أوراقها أي بصغر حجم ورقة يومية عادية صغيرة أو كبيرة، لكنها تحمل ثِقل عالم كامل. وهنا تكمن المفارقة: أن الوثيقة الصغيرة قد تختزن ذاكرة أمة أو سيرة حياة.

ما بين الذائقة والتوثيق:

إن قيمة الاسكتشات لا تنحصر في بعدها الجمالي فحسب، بل تمتد إلى بعدها التوثيقي. فالمؤرخ يجد فيها مادة خام لدراسة التحولات الفنية، والجامع يراها كنزاً أصيلاً، والمتلقي يتأملها كفضاء مفتوح على الصدق والعفوية.

photo_5321269037713457536_y
September 5, 2025
photo_5321269037713457543_y
September 5, 2025
photo_5321269037713457542_y
September 5, 2025
photo_5321269037713457541_y
September 5, 2025
photo_5321269037713457540_y
September 5, 2025
photo_5321269037713457539_y
September 5, 2025
error: Content is protected !!