“نمبر وَن” روبرت تشانغ

حارس أمين على كنوز الإمبراطورية الخزفية، في ردهات الصالات المعروضة، حيث يرقص الضوء على أسطح الخزف المصقول، وتتوهج الألوان الزاهية، لا يمكن للمرء إلا أن يشعر بهيبة التاريخ وعمق الفن. هناك، وسط هذه التحف الخالدة، يتجلى إرث رجل كرس حياته لشغف لا يضاهى: روبرت تشانغ نَمبر وَن، أو كما يُعرف في أروقة عشاق الفن، "حارس كنوز الإمبراطورية السماوية".

في أحد أزقة شنغهاي القديمة، كان صبي صغير يرتّب أواني خزفية على رفوف متجر جده. لم يكن يعلم أن يديه المرتجفتين آنذاك ستصافح لاحقًا أهم أعمال أسرة تانغ وسونغ ومينغ، وأنه سيجلس في الصف الأول لكل مزاد كبرى في هونغ كونغ، ملوّحًا برقمه "001"، مبتسمًا بابتسامة من يعرف جيدًا قيمة ما بين يديه. ذلك الصبي كان روبرت تشانغ، الرجل الذي صنع من سوق الفن الصيني إمبراطورية خاصة، لا تحكمها حدود، وتربّع على قائمة أثرى مئة رجل أعمال صيني لمدة نصف قرن متواصلة.

وُلد روبرت تشانغ عام 1927 في تشانغتشو بمقاطعة جيانغسو، وسط الصين. كان والده تاجر تحف محترف، وجده نحاتاً فنياً عُرف بدقته وروحه المتأملة. ما إن بلغ الرابعة عشرة، حتى بدأ تشانغ يتعلّم أسرار السوق في متجر العائلة، ليتحول سريعًا من مجرد صبي يرتب الأواني إلى عين خبيرة تستطيع تمييز أصالة القطعة من أول نظرة ولمسة. لكن الحرب الأهلية وتغيّر الأحوال السياسية وتدهور الحالة المادية للعائلة دفعت به إلى مغادرة البلاد، فحمل حقيبة واحدة بها أروع مقتنيات والده وجده و26 دولارًا فقط، وغادر إلى هونغ كونغ عام 1948.

هناك، نام على الصحف، وتنقّل بين الأزقة، يتأمل التحف من خلف النوافذ، ويقارنها بخزين ذاكرته المليئة بكنوز شنغهاي. لم يكن يتحدث الإنجليزية، ولم يملك صديقًا، سوى حلم واحد: أن يصبح جامع تحف لا يشبه أحد. بدأ من الصفر، يسرح بتحفه في الشارع بين المتسوقين، حتى أسّس أول متجر له في هونغ كونغ، ثم تلاه أربعة آخرون خلال العقد الأول من استقراره.

أتقن فن التفاوض، وبعمل دؤوب بنى شبكة مع زبائن من تايوان، سنغافورة، ثم أوروبا. في الخمسينيات، اشترى تمثالًا خزفيًا من أسرة تانغ مقابل 20 دولارًا فقط. وبعد ثلاثين عامًا، بيع تمثال مماثل بأكثر من مئة ألف. لم يكن روبرت صائد فرص، بل صائد معرفة. في الستينيات، اقتحم عالم المزادات الدولية، متنقلًا بين لندن ونيويورك، وشهد تحوّل الفن الصيني من سلعة هامشية إلى نجم في قاعات كريستيز وسوثبيز.

حين افتتحت كريستيز فرعها في هونغ كونغ عام 1986، كان أول من سجل اسمه، واحتفظ منذ ذلك الحين برقمه الخاص "1" في كل مزاد. لم يكن حضوره مجرد بروتوكول، بل طقس فني يمارسه بحماسة المبتدئ وخبرة العارف، ولا يرضى ببيع الأونلاين؛ فهو يسعد بشدة لتصفيق الحضور عند رسو المزاد عليه وإتمام الصفقة ويحتفل بعدها بوجبة عشاء وسهرة موسيقى ورقص ونبيذ فاخر.

يُعرف تشانغ بحنكته الاستراتيجية، لا يشتري إلا ما يعرف قيمته، ولا يبيع إلا عندما يعلم أن القطعة ستُقدّر كما تستحق، ولا يهين روائعه عند تدهور الأسعار. وقد تحوّلت بعض قطعه إلى أساطير مزادات، مثل وعاء "فيلانغايا" من أسرة تشينغ، الذي بيع عام 2006 مقابل 151.3 مليون دولار هونغ كونغي.

كل قطعة اقتناها كانت تحمل جزءًا من ذاكرته، يختبر فيها الزمن والصنعة والذوق. يقول: "أنا الوحيد الذي يشتري سيراميك بعشرين دولار ويبيعه ب 134 مليون دولار".

لم يكن جامع تحف فقط، بل إن قصته ليست مجرد حكاية جامع تحف، بل هي ملحمة عشق للفن الصيني وكفاح من أجل جمع نفائس الجمال وروائع الإبداع، توّجت بتأسيس صرح تعليمي فريد من نوعه: مؤسسة الخزف الصيني روبرت تشانغ. وقد تجلى هذا التقدير الكبير لشخصيته وعمله في مقالات صحفية صينية مرموقة،

تناولت مسيرته بإعجاب وإجلال، معتبرة إياه جسراً حياً يربط الماضي العريق بالحاضر والمستقبل. ولد روبرت تشانغ في عائلة عريقة ذات جذور عميقة في عالم التجارة والفن. منذ نعومة أظفاره، أُحيط بجماليات الخزف الصيني، وبدأ ولعه يتشكل مع كل لمسة لأواني البورسلين المزخرفة، ومع كل قصة تُروى عن حكايات الأباطرة والفنانين الذين أبدعوا هذه الكنوز. لم يكن شغفه مجرد هواية عابرة، بل تحول إلى رحلة استكشافية عميقة في تاريخ وثقافة الصين، قادته إلى أبعد الزوايا لجمع أرقى وأندر قطع الخزف.

ولم يكن تشانغ مجرد جامع عادي، بل كان باحثًا نهمًا، يلتهم المراجع والكتب التاريخية، ويقضي الساعات الطوال في دراسة تقنيات الصناعة، وتتبع خطوط التطور في الفن الخزفي عبر العصور. لقد بنى تشانغ لنفسه مكتبة ضخمة تضم مئات المجلدات والمخطوطات النادرة عن الخزف الصيني، مما جعله مرجعًا عالميًا في هذا المجال. ولم يتوقف عند المعرفة النظرية، بل غاص في عمق الحرفية، فزار أفران الخزف القديمة، وتحدث إلى الحرفيين المهرة، محاولاً فك شفرات الأسرار التي توارثتها الأجيال.