فتاة العراق
وجه مشعٌ باللون والروح، في مشهده البصري المشبع بالمجاز واللون، يقدّم الفنان العراقي عصام ناجي تجربة تشكيلية آسرة عبر لوحة رسم فيها وجه فتاة بطريقته التعبيرية. لوحة بورتريه تتجاوز الطابع التشخيصي إلى مستويات أعمق من التعبير الروحي والانطباع الوجداني، مُكرّسة بذلك نهج الفنان الذي لطالما اعتبر أن الضوء والظل ليسا عنصرين تقنيين فقط، بل بوابتان للسمو والصوفية.
وجوه الضوء والظل: البورتريه كمنصة للتأمل، تتمحور اللوحة حول وجه امرأة، يكتنفه الغموض بقدر ما يفيض بالإيحاء، مرسوم بضربات فرشاة تلقائية عفوية سريعة ومتعددة الطبقات، تتقاطع فيها درجات الأرجواني، الأزرق، الأصفر، والبرتقالي. ورغم غياب التفاصيل الدقيقة من صورتها في الطبيعة، إلا أن الوجه يشي بحضور هائل في تجريده وتبسيطه، وكأننا أمام روح أنثوية لا جسد، شعور لا ملامح.
تتألق الخلفية بلونٍ أصفر ناري يرمز إلى الإشراق وربما الانبعاث، بينما يحتل غطاء الرأس بلونه القرمزي موضع توازن بصري، يعيد توزيع الثقل اللوني ويُضفي على العمل لمسة من الهوية الشرقية أو التراثية، دون الوقوع في النمطية.
عندما يتحدث الزيت والأكريليك وتدور عجلة الألوان، يعزف عصام ناجي بالتقنية والأسلوب وخصائص المواد بذكاء؛ من سرعة الجفاف إلى إمكانية التراكب، ما مكّنه من بناء سطح بصري متداخل وغني. لم يعتمد على تنميق سطحي أو دقة أكاديمية صارمة، بل ذهب نحو تحرير الشكل لمصلحة الانفعال، وهو ما يجعل اللوحة أقرب إلى ما يُعرف بـ"التعبيرية الحدسية"، فرشاة عريضة، وألوان جريئة تتدرج عجلة الألوان من فوق البنفسجي والأزرق إلى الأصفر والبرتقالي وما تحت الأحمر، حيث تتقاطع طاقات الألوان على وجه المرأة لتُنتج تعبيرًا داخليًا قويًا، لا يعتمد على دقة التفاصيل بقدر ما يعتمد على الإيحاء بالمشاعر والانفعالات.
من الناحية البنيوية، نلمح توازنًا مدهشًا في التكوين: مركزية الرأس، توزّع الكتل اللونية، وتفاوت حدة الإضاءة، وكلها عناصر تخلق حركة داخلية رغم سكون الموضوع، كما غياب ملامح العينان تثير العاطفة والعقل يغوصان في أعماق النفس البشرية، بورتريه شعوري وروحي، لوحة لا تنقل فقط صورة أنثوية، بل حالة إنسانية، تأملية، قد تكون في لحظة كشف، أو في لحظة غياب.
رمزية صامتة، لكنها عالية الصوت بشفتين تُوحي بصراع داخلي أو حالة وجدانية لا بد من التوقف أمام ما تثيره اللوحة من تأويلات رمزية. فالمرأة هنا لا تمثل فردًا بعينه، بل تكاد تكون كناية عن أنثى شاملة، ربما الوطن، أو الأم، أو الذات العميقة. والشفتين تُوحي بصراع داخلي أو حالة وجدانية صامتة. إنها تقف عند تقاطع الضوء والظل، الحضور والغياب، الرؤية والتأمل. لا تنظر إلينا، بل تنظر من خلالنا، كما لو أن وجودها استدعاء لماضي غامض أو استشراف لمستقبل مجهول، منجز بصري في سياق تجربة إنسانية مثيرة.
تنتمي لوحة (فتاة عراقية) إلى تجربة عصام ناجي الغنية والممتدة، التي ترتكز على البحث في جوهر الشكل من خلال انطباعات النور واللون. فالفنان، يعمل مشرفا لتعليم الفنون في وزارة التربية العراقية، وأسس "تجمع روافد للفن المعاصر"، يُظهر في كل عمل التزامًا فنيًا وأخلاقيًا تجاه الإنسان، ليس كمظهر بل كمعنى.
عصام ناجي فنان يُعيد تعريف الجمال من خلال الألم، ويُشيد عالمه البصري لا كزخرف وتزيين، بل كجسر للتسامي والتجلي. لوحته ليست مجرّد تأليف بصري، بل نصٌ شعريّ بالأكريليك، يُقرأ بالبصر والبصيرة والفؤاد معًا.
هو فنان يُعدّ من أبرز الأسماء في المشهد الفني العراقي والعربي المعاصر، حيث يتميز بأسلوب فني متفرّد يُجسّد من خلاله رؤى إنسانية وروحية عميقة. لوحته فتاة عراقية تُجسّد مثالًا نادرًا على اتحاد التقنية العالية بالرؤية الفلسفية. إنه بوتريه مفتوح على التأويل، مغلق على السطحية، ومشحون بطاقة روحية لا يخفُ بريقها مهما طالت النظرة. وبهذا، يؤكد ناجي مرة أخرى أن الفن التشكيلي العراقي، رغم ما يُحيط به من أزمات اجتماعية ثقافية سياسية اقتصادية، لا يزال قادرًا على إنتاج أعمال تُخاطب القلب والعقل معًا، وتُنقّب في طبقات الإنسان كما في طبقات اللون.
السيرة الذاتية للفنان العراقي عصام ناجي، خريج كلية الفنون الجميلة عام 1997، يعمل أستاذا لفن الرسم الأكاديمي في معاهد أهلية ببغداد، ومشرفا للتربية الفنية في وزارة التربية العراقية. عضو نقابة الفنانين العراقيين، وعضو جمعية التشكيليين العراقيين. أسّس "تجمع روافد للفن المعاصر" عام 2017، الذي يضم أكثر من 200 فنان من العراق والعالم العربي اقاموا عدة معارض ثقافية.
يقول عن أسلوبه الفني (أجد في دراسة الضوء والظل تعابير مختلفة تذهب بي إلى عوالم من السمو والعلو، وإلى أبعد من ذلك حيث التصوف). كما نلاحظ بورتريهاته تحمل طابع البراءة والعفوية والتعبير الانطباعي، ممزوجة برصانة أسلوبية مستمدة من فنون عصر النهضة وجمال الملامح الشرقية.
د. عصام عسيري
اللوحة مقتنيات خاصة أكريلك على كانفاس 1-1م انتاج عام 2016