حكّاء التجريد وراوي الجنوب بصريًا بقلم د. عصام عسيري
في المساحة الممتدة بين الضوء واللون، بين الشكل والرمز، تلمع تجربة الفنان التشكيلي السعودي عبدالله حمّاس بوصفها ملحمة تشكيلية متواصلة، لم تخضع لصخب الاتجاهات العارضة، بل نحت لنفسه مسارًا أصيلًا يستلهم من البيئة الجنوبية روحها العربية الصافية، ومن تجريد الحداثة أدواتها، في مزيج قلّ نظيره. وُلد عبدالله حمّاس Abdullah Hammas في خمسينيات القرن الماضي في قرية آل عاصم، الواقعة في خاصرة جبال عسير، حيث يشكّل اللون جزءًا من المشهد اليوميّ، وتغدو الزخرفة لغة حيّة تتنفس في المعمار واللباس وذاكرة الأشياء. من هذه الطبيعة الجبلية، الغنية بتشكيلاتها وعناصرها، تشبعت عين حمّاس الأولى، قبل أن يتحوّل هذا التشكيل الفطري إلى مشروع بصري واعٍ، صاغه على امتداد أكثر من نصف قرن.

بين البدايات والتمكّن تخرج حمّاس من معهد التربية الفنية بالرياض مطلع السبعينيات، وكرّس بعدها حياته بين الرسم والتعليم، ليكون ممن مزجوا بين التجربة الإبداعية والممارسة التربوية. وخلال رحلته، أقام أربعين معرضًا شخصيًا ومئات المشاركات الجماعية في السعودية والخليج والوطن العربي والعالم، بدأها عام 1974، متنقلًا بين الرياض والقاهرة، الرباط ولندن، دبي وباريس والمغرب، ناقلًا بصوته اللوني الحكاية العسيرية والحجازية وعموم السعودية وجزيرة العرب إلى الفضاءات العالمية، ونال على جوائز مرموقة وتقدير عالي. في أعماله الأولى، تظهر ملامح من الواقعية الرمزية، تتخللها أشكال إنسانية وزراعية تمثل الحضور الجنوبي الريفي، ثم سرعان ما تطورت لغته البصرية إلى تجريد رمزي يستند إلى اختزال الشكل وإعادة صياغته ضمن بناء هندسي محكوم بقوانين التوازن والتناغم والتكرار والإيقاع. هوية تشكيلية نادرة ليس التجريد عند حمّاس مجرد ميل أسلوبي، بل موقف بصري وروحي. في لوحاته، تغدو الزخارف خطوطًا وألوانًا في مساحات حيوية تتراقص داخل فراغات مقصودة، وتتحول الأشكال الأنثوية إلى رموز أيقونية تُكرّر حضورها لا للتماثل، بل لتأكيد الذاكرة. في تجربته، نجد تأثيرات متقاطعة من الحركات التكعيبية (جورج براك، بيكاسو)، ومن بساطة موندريان وموسيقى كاندنسكي وأسلوبية بول كلي، لكنه لم يكن مقلدًا ولا تابعًا لحركة أو فنان ما، بل مزج تلك الروافد والتجارب بأسلوب شخصي يجمع بين الإيقاع الهندسي وروح القَطّ العسيري، بين صرامة الشكل وصفاء اللون وطاقته. اللون كبطاقة هوية الألوان في أعمال عبدالله حمّاس ليست تزيينية، بل تحمل دلالة حضارية ووجدانية، فالبرتقالي والأحمر والأصفر تستدعي المنازل الملوّنة جنوب المملكة، بينما يغدو الأزرق ظلًا جبليًا وكأنه يعزل بدائرة الألوان، ألوان تعمّق الإحساس بالشكل والفراغ والحضور الروحي. أما في معرضه الأربعين، فقد اختار أن يعبر كامل تجربته بلونين فقط: الأبيض والأسود، في تحدٍّ لفكرة "اللون كهوية"، مستعيضًا عنه بـ"الشكل كذاكرة".
