عبدالحليم رضوي… حين رسمت مكة بريشة أوروبية 

في زمنٍ لم يكن الفن التشكيلي فيه أكثر من زينة هامشية للغاية في الحياة السعودية، وُلد طفلاً من أزقة مكة المكرمة يحمل في يديه الفحم والأقمشة، ويرى في البلاط والزخارف أكثر مما يرى الناس في الكتب. ذلك الشاب، الذي تحدّق في الأشكال قبل الكلمات، وتعلّم من المآذن والناس أكثر مما تعلّم من الدروس، سيغدو لاحقًا أحد مؤسسي الفن التشكيلي الحديث في المملكة، وأول من رسم مكة بلغة أوروبيةٍ، دون أن يُفرّط في ملامحها الأصلية. مكة... حيث تبدأ الحكاية: ولد عبدالحليم حمزة رضوي عام 1939 في قلب مكة، أم القرى التي هي مسرحًا هائلًا للرموز البصرية الإسلامية، بتنوّع سكانها وزوّارها، وبكل زخارفها، وخطوطها الهندسية، وتداخلاتها الروحية. ترعرع في بيئة محافظة لم يكن فيها للفن أهمية شرعية أو اجتماعية. لكنه، ومنذ صباه، كان يرى الجمال في بلاط الساحات، وفي النور المتسلل من المشربيات، وفي الحرف العربي المنقوش على جدران المساجد.

كان الفن عنده فطرة، لا قرارًا. من مكة إلى روما... الرحلة الكبرى: لم تكن روما في الستينيات مجرد مدينة بالنسبة للرضوي، بل كانت مختبرًا عالميًا لصياغة الحداثة. هناك، التحق بأكاديمية الفنون الجميلة بروما، لينهل من معين المدارس الغربية: التعبيرية، التكعيبية، التجريدية، السريالية، وكل ما كان يُنتج تحت مظلة "الما بعد" في أوروبا. لكنه لم يكن مقلّدًا، بل مبتكرًا. أدخل الخط العربي والزخرفة الإسلامية في تكوينات سريالية تارة، وتكعيبية وتجريدية تارة أخرى. زاوج بين الروح الشرقية والصرامة المادية الغربية، وخرج بأسلوبه الذي سيُعرف به لاحقًا، حيث يتحوّل الرمز الإسلامي إلى عنصر حداثي، لا مجرد تراثي. في أحد معارضه الأولى في روما، كتب ناقد فني إيطالي: "لوحاته تبدو كأنها صلوات بصرية... إنه يرسم الشرق كما لا يعرفه الغربيون، لا بالصحراء والتمائم، بل بالخطوط والرموز والصفاء المعماري."

العودة إلى جدة... التأسيس والمقاومة:

عند عودته إلى السعودية بعد أن أنهى دراسته، وجد أن المجتمع لا يزال يراوح بين الريبة والرفض تجاه الفنون البصرية. لكنه لم يهادن، واستفاد مع حركات التحديث الثقافي في مجالات الكتابة والأدب والموسيقى والطرب لذاك الجيل. أسس قسم الفنون التشكيلية في جمعية الثقافة والفنون، ودعا إلى تعليم الفن، تنظيم المعارض، ودمج الفن بالتنمية. لم يكن عبدالحليم يملك سلطة ثقافية، لكنه امتلك سلطة الكتلة واللون، التي تفرض هيبتها على المكان. نفذ جداريات ومجسمات ضخمة في مؤسسات حكومية، جامعات، مطارات، وواجهات عامة، أبرزها جدارية مطار جدة وبعض ميادينها، التي تمثل مزيجًا بين الزخرفة الحجازية والحداثة العالمية.

كان الرضوي غزير الإنتاج، شارك في عشرات المعارض الفردية والجماعية محليا وعربيا وعالميا، منها بينالي البندقية الذي يُعد الأهم عالميا، ورفع اسم السعودية في العديد من المحافل الدولية، في زمن لم تتاح فرص فيه إلا للقليل من المبدعين أن تعبر الحدود. إرثه... اللون الذي لا يجف: لم يكن عبدالحليم فنانًا نخبويًا، بل رسامًا للروح السعودية كما حلم بها، لا كما وُصفت في كتب المستشرقين، فقد تنقّل بين مدنها مترامية الأطراف ومتنوعة الثقافات. كانت لوحاته مزدحمة بالرموز، لكنها خالية من الضجيج. لا يصرخ فيها اللون، بل يتنفس. لا تُرعبك كثافتها، بل تُقنعك. حتى اليوم، لا يمكن الحديث عن الحركة التشكيلية السعودية دون المرور به. فهو ليس مجرد رائد، بل هو جسر بين زمنين، ولغة بين ثقافتين، ورمز لفنان آمن أن الفن لا يُزهر إلا في بيئةٍ يُروى فيها بالحرية.

رحل عبدالحليم رضوي في عام 2006، لكن أعماله لم ترحل. بقيت شاهدة على زمن التأسيس، وشاهدة على المعركة الصامتة التي خاضها، معركة أن يكون الفن جزءًا من الهوية ومعبّرا عنها، لا ترفًا منها. اللغة التشكيلية في أعمال الرضوي: في تتبع المسار البصري لعبدالحليم رضوي، نجد أننا أمام فنان لم يكن يرسم المشهد، بل يكوّنه من الداخل. لم يكن أسير الشكل، ولا تابعًا لمدرسة، بل مؤسسًا لـ"نظام بصري" متكامل ينبثق من تراثه لكنه لا يُقيد به.

1. تكويناته… هندسة الروح والذاكرة: في أعماله، يتكرّر"المثلث، المربع والدائرة"، و"الخط العمودي"، لكنها لا تُستخدم كأشكال هندسية مجردة، بل كعناصر تنظم العلاقة بين مكونات الداخل والنظرة من الخارج، بين المركز والهامش، بين الأرض والسماء. تُذكّر بعض أعماله بنوافذ المساجد، أو بشبابيك البيوت الحجازية، لكن هذه الاستدعاءات ليست توثيقية، بل حركية؛ تتكرر العناصر بصيغة إيقاع بصري، يُدخل المتلقي في حال من التأمل والتنقل داخل فضاء اللوحة. تكوينه لا يعتمد المنظور الغربي التقليدي، بل على منظور "مركزي – زخرفي"، حيث كل العناصر تدور حول مركز رمزي، غالبًا ما يكون مشعًا أو محاطًا بكتل لونية كمدار فلكي سرمدي، وبعضها كطواف روحي بالبيت العتيق.

2. اللون عند رضوي… طاقة لا وصف: اللون في لوحاته ليس تلوينًا، بل نبض روحي. الأزرق عنده ليس ماءً ولا سماءً، بل امتدادًا لبرودة الروح. الذهبي ليس زينةً بل طيفًا إسلاميًا يُحيل إلى قباب الذهب في العمارة المكية. أما الأحمر، فهو صوت داخلي؛ لا يغضب، بل يُصلي. يميل إلى الألوان الصريحة (البنفسجي، التركوازي، الأحمر) دون مزج أو تدرج سطحي. وهذا يعود لاقتناعه بأن اللون قوة مستقلة، لا تابع للشكل. لوحاته لا تُقاس بدرجة الضوء والظل، بل بوزن اللون في التكوين. أحيانًا تكون المساحة الصغرى (خطًا زهريًا أو أصفراً) أقوى من الكتل اللونية المهيمنة، لأنه يعرف كيف يوظّف التوتر البصري في خدمة الانفعال الروحي.

3. الخط العربي... من نص إلى شكل: لم يتعامل رضوي مع الخط العربي بوصفه جملة تُقرأ، بل بوصفه بنية بصرية تُرى وتُشعر. كان يحذف المعنى اللغوي ليُعيد بناء المعنى الشعوري. يتحوّل الحرف عنده إلى مئذنة، إلى زينة، إلى صدى صوت داخلي. ولم يستخدم الخط والكتابة بأسلوب الديكور كما فعل بعض معاصريه، بل جعله أداة تشكيليّة تحمل في ذاتها بعدًا رمزيًا، فتتكرّر الحروف لا لتُعبّر، بل لتبني إيقاعًا بصريًا يُقارب الشعر الصوفي.

4.الرقص والموسيقى في أعماله: رسم الرضوي في عدة أعمال ووثّق الرقصات والعرضات واللعب الشعبي من مختلف أرجاء المملكة الثرية بالتنوّع الترفيهي الثقافي، بطريقة تعبيرية تبرز فيها الإيقاعات والحركات المثيرة في هذا اللون من فنون الرقص.

5. من اللوحة إلى الجدار: اتساع الجسد البصري: في انتقاله من اللوحة الصغيرة إلى الجدارية، لم يفقد رضوي السيطرة على التكوين. بل العكس، الجدارية كانت عنده امتدادًا عضويًا للوحة، لا مجرد تضخيم لها. الجدارية عنده ليست عرضًا للبراعة، بل جغرافيا للانتماء البصري. يملأ الحائط كما يملأ الفنان روحه، فلا يترك مساحة فارغة إلا لتُشير إلى الغياب، ولا يملأ مساحة إلا وتكون عامرة بالمعنى. ختاما، تجربة عبدالحليم رضوي ليست مجرد مزيج بين الحداثة والتراث، بل تجربة تركيب بصري معقدة أعادت تعريف الزخرفة، وأعادت الاعتبار للرمز الإسلامي في زمن كانت فيه الحداثة تُساوي القطيعة. لقد نجح في بناء فن لا يقلد الغرب، ولا ينعزل عنه، بل يُحاوره بنديّة. وكان هذا جوهر مشروعه، ليس أن يكون فنانًا سعوديًا ناجحًا، بل أن يكون صاحب لغة خاصة، ناطقة بجمالٍ لا يمكن ترجمته، لأنه يُحسّ حتى يدخل القلب ولا يُقال شيء إلا ياسلام. للاطلاع علي سيرته بشمل اكثر تفصيلا على الرابط التالي: