سيلفادور وسيلفادورا

كان سلفادور دالي يجلس في مقهى "الدوم" بباريس، حين سحبت يده من جيب سترته المخملية صندوقًا زجاجيًا صغيرًا. بداخله نملة حمراء تتحرك ببطء. — "هذه سيلفادورا... شقيقتي التوأم من عالم آخر!"، قالها بجدية. ضحك الحاضرون، لكن عينيه لم تكن تمزح.

البداية كانت في كتالونيا عندما كان طفلًا، وجد خفاشًا ميتًا على الشرفة. جثّة تلتهمها جيوش النمل. وقف يراقبها ساعات، ثم صرخ:

"انظروا! هؤلاء النمل نحاتون صغارٌ يصنعون من الموت فنًا!".

من ذلك اليوم، صارت الحشرة هاجسه. رسمها في هوامش دفاتره، ثم زحفت إلى لوحاته العظيمة: ساعات ذائبة تزحف عليها النمل... وجوه مشوّهة تخرج من أفواهها مستعمراتٌ حمراء. في مرسمه "ببرت ليغات " كان يُدخل "سيلفادورا" إلى قفص ذهبي مرصّع بالزبرجد، ويضعها على أذنه حين يعجز عن الإبداع:

— "إنها تهمس لي بأفكارٍ لا يسمعها إلا المجانين!". وفي ليلة صاخبة، ألقى بها في فنجان قهوة أمام ضيوفه: — "ها هي ترسم تحفتها الجديدة بقاع الفنجان!". حين سألوه: "ألا تخاف أن تلدغك؟"، أجاب بابتسامةٍ ملتوية:

— "العبقرية لا تُلدغ... بل تَلدغُ العالم!".

و ذات يوم وجد "سيلفادورا" بلا حراك. أقام لها جنازةً سريالية: وضع الجثة في علبة سيجار كوبية، صلّى فوقها مرتديًا رداء كاهنٍ قديم، ثم دفنها تحت شجرة زيتون وهو يهتف:

— "المجدُ للفنّ! الموتُ لوهم الخلود!".

وفي الصباح التالي، ظهر بصندوق زجاجي جديد، بداخله نملة مطابقة. — "الخلود مجرد استبدال النسخ!"، قال وهو يرفعها نحو الشمس. ولطالما كان دالي يهمس لأصدقائه: — "النملُ أفضل من البشر... يبنون مملكةً في الظلام و لا يطلبون شهرة!". وحين سأله فتى طموح عن سرّ إبداعه، أخرج الصندوق وقال:

— "كن نملةً في عالم النمل!".

وفي النهاية مات دالي، وبقيت "سيلفادورا" لغزًا. هل كانت حقيقية؟ أم لا ... لا يهم. فقد صارت قصيدةً عن فنانٍ حوَّل حشرةً إلى رمزٍ، وجنونه إلى خلودٍ. وها هي اليوم، في متحفه بفيغويراس، نملةٌ ذهبية تلمع في قفص زجاجي... كأنها تضحك منّا جميعًا.

المصادر : - مذكرات دالي الشخصية (الحياة السرية لسلفادور دالي). كتاب السيرة الذاتية "دالي: العبقرية الملتوية للمؤرخ إيان جيبسون

#أحمد معوض