
هوية فنية أصيلة بروح معاصرة
يُعد الفنان التشكيلي السعودي سليمان باجبع من أبرز الأسماء التي استطاعت أن تمزج بين الجذور الفنية المحلية وروح الحداثة التعبيرية، عبر مسيرة غنية امتدت منذ السبعينات وحتى اليوم. تنقل باجبع بين حركات الفن الحديثة والمعاصرة من الواقعية والتاثيرية والتعبيرية ومرّ بالتكعيبية ووصولا للتجريدية بأسلوب خاص جعله ذا أسلوب مستقل في الرؤية والتكوين والطرح الفني.
ورغم تواضعه وبُعده عن الصخب الإعلامي، فقد ظل مؤثرًا، كفنان ومعلم ومثقف، في المشهد التشكيلي السعودي والعربي. نُفذت هذه اللوحة بأسلوب تكعيبي بخامة الأكريليك على قماش الكانفاس (30×40 سم)، وهي تصور وجهًا نسائيًا مبسطًا، يتداخل فيه التعبير الرمزي مع التكوين الهندسي، في بنية تشكيلية تجمع بين الحدّة والتناسق، وبين الشاعرية والحزن المكثف.
الوجه يتجزأ إلى قسمين متقابلين سيميتريا كطبيعته، تتناوب فيهما الألوان الحارة والباردة، ما يعكس ثنائية نفسية وحالة وجدانية مركبة.
العيون الواسعة الداكنة، وهي محور التعبير في اللوحة، تعكس تأملًا ساكنًا وموجعًا، ويتدلى من إحداها دمعة زرقاء، في تعبير مباشر عن الأسى.
الخلفية محملة بمثلثات متكررة، تُشبه الأرابيسك الهندسي، لكنها في صياغة حديثة، ما يربط هذا العمل بالتراث الإسلامي والزخرفة العربية، دون أن يكون توظيفًا مباشراً.
بتحليل العمل بصريا حسب النقاط التالية:
1. البنية التركيبية والتكوين
يعتمد باجبع على تقسيم الوجه باستخدام خطوط سوداء كثيفة تحدد المساحات، وتجعل التكوين يبدو كموزاييك تعبيري. تنقسم اللوحة إلى مستويات لونية منظمة، ما يشبه تقسيم الفُسيفساء، لكن بروح تجريدية معاصرة.
2. اللون والرمز
الألوان الحارة (البرتقالي، الأحمر، الأصفر) تُعبّر عن الصدمة، القوة، والحنين.
الألوان الباردة (الأزرق، الفيروزي) توحي بالحزن والدموع والذاكرة.
الشعر الذهبي المسدل كستار يرمز للأنوثة، لكنه مرسوم بخطوط مكررة تُوحي بالثقل وتأكيد لقيم الجمال.
3. التعبير البصري للعيون
العينان تشكلان مركز العمل، لكنهما ليستا متطابقتين، ما يعكس اضطرابًا داخليًا أو انقسامًا نفسياً في أداة البصر وأساس البصيرة. وتكرار الأشكال حول العينين (مثل الشرائط والخطوط العمودية) يوحي بالاحتجاز، كأن الشخصية خلف قناع أو سجن بصري.
4. العناصر الهندسية
المثلثات والزوايا في الخلفية والأمامية تمثل مزيجًا من: الإيقاع البصري المنتظم (الزخرفة). دلالات رمزية (المثلث بوصفه رمزًا للهوية الروحية، والتوازن بين البداية والوسط والنهاية).
هذه اللوحة بتكعيبيتها وإن بدت تجريدية في شكلها، إلا أنها مشبعة بالتعبير النفسي والوجداني، وتقدم قراءة صامتة لألم وتحطّم داخلي مع تماسك خارجي في قالب بصري ساحر. إنها ليست فقط تصويرًا لامرأة، بل لبُنية الهشاشة والقوة التي تتقاطع داخل الإنسان المعاصر، خصوصًا المرأة في المجتمعات التقليدية.
القيمة البصرية في العمل ناتجة عن صراع هادئ بين التزيين والتألم، بين التجميل والإفصاح، وهذه مفارقة يتقنها باجبع، وتمنحه خصوصية في أسلوبه التعبيري. كما أن استعماله للأكريليك بحرفية واضحة في التدرج اللوني والملمس يعطي اللوحة طاقة خامًّا غير مصقولة، تزيد من صدقها الفني.
سياق العمل في مسيرة الفنان باجبع
إذا نظرنا إلى هذه اللوحة التي أنتجها عام ٢٠٢٠م ضمن مسيرة الفنان، نجد أنها تحمل تطورًا واضحًا عن مراحله السابقة التي كانت أكثر قربًا من الرمزية الواقعية، وتظهر هنا نقلة نحو التجريد الرمزي المكثف.
على عكس لوحاته الأولى التي انشغلت بالخيل والحروف والمناظر الشعبية، فإن هذا العمل أكثر انكفاءً على الذات.
هناك نضج في التعبير والتبسيط البصري، إذ أصبح الفنان يُلمّح بدل أن يُصرّح، ويترك للمتلقي مساحة أكبر للتأويل.
السيرة والمكانة الثقافية للفنان سليمان باجبع
ولد الفنان سليمان أحمد باجبع Suliman Bajabaa في جدة عام 1955، ودرس في معهد التربية الفنية بالرياض عام 1976، ثم نال البكالوريوس من جامعة أم القرى عام 2000. جمع بين التجربة التربوية والثقافية والإبداعية، حيث عمل معلمًا للفنون ثم مشرفًا على المعارض والأنشطة الفنية، وشارك في تأسيس ونشر الحراك التشكيلي بجدة والمنطقة الغربية في معارض فردية وجماعية بجمعيات الثقافة والفنون ورعاية الشباب والصالات الأهلية.
من أبرز مشاركاته الدولية: معارض في ألمانيا، المكسيك، الولايات المتحدة، المغرب، الكويت، الأردن، الهند، وتونس. حاز جوائز محلية ودولية، منها ميداليات ذهبية وفضية، ومراكز متقدمة في معارض كبرى مثل معرض فناني المرسم بجدة، وبينالي الكويت.
يُعد من الفنانين الذين تركوا بصمة مزدوجة: إبداعية وتربوية، حيث درّب أجيالًا من الفنانين، ونقل إليهم خبرته وخياله وسعة رؤيته.
ختاما، بتجريد الباكية أمام مرآة التكعيب قدّم لنا باجبع وجهًا لا نعرفه، لكنه يشبهنا جميعًا عندما نتحطّم من الداخل ونتماسك من الخارج، بدمعة صامتة وألوان منفعلة متناقضة. إنها ليست فقط لوحة، بل مرآة حادة لكل ما نخفيه خلف الوجوه. هذا العمل يثبت أن الفنان لا يحتاج إلى مساحات ضخمة أو زخارف مبهرة ليُحدث الأثر بل يكفيه صدق التعبير، كما فعل هنا.
# د. عصام عسيري العمل #مقتنيات_خاصة
