بقلم: د. فلاح شكرجي فنان وناقد تشكيلي/ جامعة صلاح الدين- اربيل جمهورية العراق
تنحو الدراسات النقدية المعاصرة منحى موضوعي في تحليلها للاعمال الفنية,كونها دراسات خاضعة لآليات تحليل وتركيب تتخذ من دائرة الابداع والوعي حيزا لاشتغالها, لذلك غدت مثل تلك الدراسات ذات قيمة فكرية وتأثير مكمل لتأثير الابداع ذاته واصبح للنقد لغة فائقة قادرة على تحليل لغة النصوص الابداعية , فالفنان (من وجهة نظر نقدية معينة) فرد يلخص وجدان امة ويعبّر عما تراكم فيه من قيمها وافكارها التي ينتجها بلغته الخاصة وبحسب طبيعة عمله الفني وادواته ومفرداته كبنية حاضرة لها قدرة على الابلاغ ومن جهة اخرى هو حر في التعبير والتشكيل والتاويل والتجريد والحذف او المبالغة والتفخيم, وتتصف الاعمال الفنية ولاسيما في الحداثة وما بعدها بكونها تبتعد بقدر او اخر عن المتداول والشائع مما اعتاد عليه التلقي,الامر الذي يعيق حالة ادراك الدلالة (المضمون) التي تختزنها الدوال (الاشكال).
من اجل ذلك يغدو للنقد حضور فكري فاعل في العملية الابداعية من خلال رصد الدوال ضمن الاثر(العمل) الفني والكشف عن احتمالاتها الفكرية ضمن السياق (الاطار)الفكري المهيمن والمتفاعل مع ذلك الاثر وتحديد ملامح الخطاب(المعنى) الرمزي والكشف عن شيفرته بموجب المتداول والمتواضع عليه من افكار ومفاهيم بين الناس, وبذلك يغدو الارسال ما بين الفنان عبر الناقد وصولا للمتلقي افضل مما لو ترك المتلقي (أيا كان مستواه الثقافي) وجها لوجه مع لغة بصرية مشفرة يعجز عن ادراكها او ردم الفجوة التي تفصلهما عن بعض.
ان حقيقة التفاعل الحيوي بين الابداع والنقد تمثلت في سلسة التحولات التي شهدها الفن نتيجة حركة التحولات الاسلوبية المتواصلة والمستمرة التي اوغلت في عزل المبدع عن المجتمع بدءا من الانتقال من تمجيد النموذج الطبيعي (المدرسة الكلاسيكية الجديدة) مرورا بالانزياح نحو الخيال(المدرسة الرومانتيكية) ومن ثم بالواقع الاجتماعي (المدرسة الواقعية) وما تلاه من عشق النور وجمال الطبيعة (المدرسة الانطباعية) ونقاء اللون (المدرسة الوحشية) والجذر الهندسي للشكل المرئي(المدرسة التكعيبية) وسحر الالة (المدرسة المستقبلية) وتأكيد الذاتي امام الموضوعي (المدرسة التعبيرية) وحركة التمرد العبثي(الدادا) والالتفاف على العقل للتعبير عن الفكر (المدرسة السوريالية) ومحاولة التعبير عن الضرورة الداخلية (المدرسة التجريدية) وصولا للمدرسة التجريدية التعبيرية الامريكية الجديدة وما ينضوي تحتها من تيارات فنية بصرية من امثال فن التنصيب, فن الارض, فن الفيديو, وفن الجسد والتي غيرت مفاهيم الفنون البصرية في عصرنا الراهن الى حد بعيد.
وفي كل ذلك ظل النقد ملتزم بدورين فاعلين واساسيين هما: التفسير والتقويم,ومن الطبيعي انهما متلازمين في دائرة الاشتغال ومسارات الفكر, فالناقد لايمكن ان يقّوم ما لا يجد له تفسير, وهو ان سعى لتفسير العمل الفني فسيكون قد اكسبه قيمة مضافة, وطبيعي ان يكون القيام بهما على انحاء كثيرة ومتباينة فلكل ناقد رؤيته التي يتبناها في تعامله مع النص, وهذا الامر ليس بالهين بالنسبة لدائرة التلقي ويتطلب استيعابه التعرف على الاتجاهات الرئيسية للنقد والتي ينبهنا كل منها الى جوانب مختلفة من العمل الفني, فمنها ما يؤكد اصول العمل او المجتمع الذي عاش فيه الفنان او تاثيرات العمل على نفسية الفنان او التاكيد على الاهتمام الباطن للبنية الفنية وهي كالتالي:
النقد الكلاسيكي: اعتمد هذا النقد من مطابقة الواقع معيارا له وعلى وفق مباديء العصر اليوناني سواء في ادابه او فنونه البصرية وقد وضع اعلام هذا الاتجاه النقدي قواعد مفصلة وشمولية وصارمة ولم تكن تتقبل التجريب والتجديد, أي انه اسلوب نقدي محكوم بالتراث من ذلك نجد ان البعض يظل حبيسا ضمن نهج ابداعي معين مهما مضت عليه السنون ولايستشعر معطيات الجمال في أي الانساق الابداعية الجديدة والمشاكسة والتي تسعى لتكريس تمردها وهويتها.
النقد السياقي: اعتمد هذا النقد الظروف التي ظهر فيها العمل الفني كالبيئة والجنس والحقبة, لذلك يُعّد نوعا من البحث في الاطر التاريخية والاجتماعية والنفسية والمعاشية للفن وان الاعمال الفنية تعد نواتج اجتماعية وتعكس سمات السياق العام الذي ينتمي اليه الفنان, وتاريخيا يؤشر ان السياقيون ينظرون للفن على انه ظاهرة تجريبية ضمن الظواهر الاخرى والحقيقة ان فكرة السياق ذاتها تعد من اقوى افكار القرن التاسع عشر اصالة واعظمها تاثير لكونها ترمي لدراسة الفن من خلال اسبابه ونتائجه وعلاقاته المتبادلة وان للفن حياة اجتماعية, ومن المهم ان نعلم ان الصفة الفكرية للقرن التاسع عشر ذات اتجاه تاريخي وان الكثير من مفكريه وعلماؤه البارزين كانو يدرسون وقائع ابحاثهم على وفق الطريقة المنشأية أي من خلال اصولها, وكذلك فأن محاولات المفكرين في جعل النقد علميا باعتبار ان العلم ارفع منجزات العقل البشري قد اثرت تأثيرا كبيرا على ظاهرة النقد إذ درست العديد من الظواهر بصورة علمية كالسلوك الفردي والاجتماعي من خلال الظواهر النفسية وكالدين باعتباره ظاهرة اجتماعية(على حد زعمهم) ولفض الاشتباك الفكري بين النقاد وارائهم الذاتية سعى النقاد للتعامل مع الفن بعدّه ظاهرة علمية, ويعد المنهج الماركسي ونظرية تين في النقد الاجتماعي وتيار الفرويديون ما اهم نماذج النقد السياقي.
النقد الانطباعي: نشأ هذا الاتجاه النقدي في مطلع القرن العشرين كرد فعل على الثغرات التي لم تعالج في النقد السياقي وما مقولة (اوسكار وايلد بان: الفن انفعال) الا دليل على الرغبة في الافلات من الصفة الموضوعية والتاكيد على الجانب الذاتي للفن وبالتالي النقد وهذا ما يؤكده (اناتول فرانس بقوله اننا لايمكن ان نخرج عن انفسنا) وبالتالي تحدد النقد بموقف الناقد من العمل الفني ومدى انفعاله تجاهه بمنتهى الحرية دون اللجوء لأي نوع من القواعد ودون الاكتراث بالمحركات السياقية بالتالي تحول النقد الى تدفق انفعالي صرف.
النقد القصدي: اتجاه نقدي نشأ كرد فعل لما تداعى عن النقد الانطباعي من طروحات فكرية ويسعى هذا الاتجاه الى تقصي ما يرمي اليه المبدع من عمله الفني والدافعية التي جعلته يشكل عناصره بالكيفية التي نراها عليه, وتعد النظرية القصدية في النقد دعوة للتعاطف الجمالي مع العمل وعدم التعامل معه بروح غريبة عن روح الفنان, لكن ما يؤخذ على هذه النظرية استحالة التوصل الى المخطط الذهني للفنان وهدفه الذي رام تحقيقه.
النقد البنيوي/السيميائي: اعتمد هذا الاتجاه النقدي على مبدأ رؤية الشيء بذاته والتركيز على الطبيعة الباطنية الذاتية للعمل وتجنب كل ما هو خارجه كالقواعد التي يحاكم العمل بموجبها او الظروف التي تؤطر التجربة الفنية او المجتمع الذي عاشه الفنان او التاكيد على مشاعر الناقد او الهدف الذي يسعى الفنان لتحقيقه , أي ان النقد الحديث هاجم كل الاتجاهات النقدية الاخرى وتوافقت اراؤه مع الحركة الشكلية في النقد ولا سيما طروحات دي سوسير وريتشارد بيرس في الالسنية وجماعة الشكلانيين الروس والدعوة الى فحص النصوص من الداخل وكشف علاقات العناصر ضمن بنية العمل الفني والسعي لكشف حركة العلامة من حيث تاثيرها النفسي او اشتغالها ضمن الاطار الثقافي العام بعيدا عن ثقافة المنتج او تاريخانية النتاج.
النقد التداولي: اتجاه نقدي يجمع بين تحليل ظروف الخارج وعلاقات الداخل , اي فحص النصوص الابداعية على وفق رؤية شمولية تكاملية تؤكد دور المرجعيات الثقافية المتحكمة التى ادت الى تبلور معرفية الفنان وبالتالي انتاج العمل
النقد التفكيكي: اتجاه نقدي قائم على فكرة تقويض المراكز ورصد الاثر وتحقيق الاختلاف من خلال الصدمة وهي مرتكزات ستراتيجيا التفكيك التي قدمها الفيلسوف الفرنسي (جاك دريدا) الذي يسعى لابتكار التساؤلات اكثر مما يهتم بطرح الاجابات والحفر بحثا عن مستويات جديدة للمعنى في العمل الفني.
من كل ما تقدم تجدر الاشارة الى ملاحظة مهمة وهي ان الناقد الجيد يكيف مناهجه واساليبه ومعاييره القيمية تبعا للعمل الفني الذي يدرسه وكذلك ياخذ بنظر الاعتبار الجمهور الذي يخاطبه حتى يكون تاثيره اكبر وقدرته على الابلاغ الفكرى عن الكامن الجمالي في الفن اعلى وبذلك يتمكن من تحقيق غاياته المعرفية ودوره الثقافي بكونه قناة موضوعية وضرورية لأتصال الفن بالناس وانتشار الثقافة الجمالية في جسد المجتمع.