حياة الصورة من السحر الى الشاشة

قراءة فلسفية في رحلة الصورة الإنسانية د.عصام عسيري

في زمنٍ تتكاثر فيه الصور بقدر ما تتناقص فيه المعاني، يأتينا الفيلسوف والناقد الفرنسي ريجيس دوبري بكتابه البديع "حياة الصورة" (Vie et mort de l'image) ليقودنا في رحلة فكرية آسرة، تتبع سيرة الصورة منذ مهدها السحري البدائي وحتى شاشاتها المعاصرة التي تسكن يوميات الإنسان الحديث.

الكتاب، الذي يُعد من أبرز المراجع الفلسفية والنقدية المعاصرة في مبحث "الصور"، لا يتناول الصورة كشيء عابر أو مجرد وسيط بصري، بل ككائن ثقافي وتاريخي له حياة، وطفولة، ونضج، وربما شيخوخة.

بين السحر والفن والتقنية: ثلاث لحظات من حياة الصورة يقسّم دوبري "حياة الصورة" إلى ثلاث لحظات كبرى تمثّل محطات تطورها الحضاري:

1. المرحلة السحرية (الصور الطوطمية والمقدسة) في هذه اللحظة الأولى، كانت الصورة سحرًا وطلسما. لم تكن الصورة تمثيلًا، بل حضورًا. يكتب دوبري: "في المجتمعات البدائية لم تكن الصورة تُرى بل كانت تُهاب." هنا تكمن الصورة في الكهوف، في الجداريات البدائية، في التمائم والأوثان. الصورة آنذاك ليست مرآة، بل قوة خارقة تتجاوز حدود الزمان والمكان، وتمنح للغائب حضوره، وللميت استمراره.

2. المرحلة الفنية (الصورة كتمثيل وجماليّة) مع صعود الفنون، خصوصًا في الحضارة اليونانية والرومانية ثم عصر النهضة، تصبح الصورة وسيلة تمثيل. تدخل في حقل الجمال والتقنية. تنتقل من قدسيتها الأولى إلى مرآة للواقع، وتبدأ بالتماهي مع مفاهيم الفن والذوق والرؤية. يقول دوبري: "عندما انفصلت الصورة عن المعابد ودخلت المتاحف، تحوّلت من رمزٍ مقدس إلى موضوع تأمل."

3. المرحلة التقنية – الصناعية (الصورة كنسق معلوماتي) مع اختراع الطباعة، ثم التصوير الفوتوغرافي، فالسينما، فالشاشة الرقمية… تدخل الصورة عالمًا جديدًا. لم تعد مرتبطة بالمكان أو بالندرة، بل أصبحت قابلة للاستنساخ والتكرار والانتشار. هنا تتحوّل الصورة من "كائن" إلى "تدفّق"، وتفقد بعضًا من سلطتها القديمة. "ما كان يُرى مرة واحدة ويُحفر في الذاكرة، صار يُعاد آلاف المرات حتى يفقد معناه."

الصورة بين الحياة والموت العنوان الفرنسي الأصلي للكتاب هو "Vie et mort de l'image"، أي "حياة وموت الصورة"، وهو عنوان إشكالي يستفز القارئ ليتأمل: هل تموت الصورة فعلًا؟ دوبري لا يعلن موت الصورة بالمعنى القاطع، بل يشير إلى تحوّلها الجذري، ويقارن بين الصورة القديمة (التي كانت تتطلب طقوسًا وتأملًا وسياقًا مقدسًا) والصورة الرقمية الحديثة (التي تُستهلك بلا وعي، وتُنتَج بلا حدود). إنها ليست صورة "ميتة"، بل صورة فقدت حياتها الرمزية القديمة.

مدرسة "الوسيطية" Médiologie ينتمي هذا الكتاب إلى تيار فكري أسّسه دوبري يُدعى "الميديولوجيا" (Médiologie)، وهو حقل يهتم بدراسة انتقال المعاني من خلال الوسائط (الميديا)، ويبحث كيف تتأثر الأفكار والثقافات بالبُنى التقنية والمادية التي تمرّ عبرها. فالصورة، في هذا السياق، ليست انعكاسًا للواقع فقط، بل وعاء ثقافيّ يتحكم في طريقة إدراكنا للعالم.

تأملات نقدية: أين نحن من الصورة اليوم.؟ من خلال قراءة "حياة الصورة"، يجد القارئ نفسه مدفوعًا للتساؤل: ما قيمة الصورة اليوم؟ هل ما زالت الصورة قادرة على التعبير؟ أم تحوّلت إلى ضجيجٍ بصري؟

في زمن التواصل الفوري والذكاء الاصطناعي وتطبيقات التزييف العميق (Deepfake)، هل يمكننا الحديث عن "صدق الصورة"؟ هذه الأسئلة هي جوهر ما يثيره دوبري: "كلما تكاثرت الصور، قلّ ما نراه فعلاً."

خاتمة: دعوة إلى "الوعي البصري" "حياة الصورة" ليس مجرد كتاب عن الفن أو التصوير، بل كتاب عن مصير الإنسانية في زمن الصور. هو دعوة إلى إعادة النظر، لا في الصورة فقط، بل في كيفية نظرنا إليها. في زمن اللايقين، قد يكون الرجوع إلى الصورة بمعناها الأول – كأثرٍ إنساني عميق – هو طريق نحو استعادة بعضٍ من المعنى.

حول المؤلف: ريجيس دوبري فيلسوف، كاتب، ومفكر فرنسي (مواليد 1940)، اشتُهر بتأسيسه لحقل "الميديولوجيا"، وكتب في قضايا الإعلام، الصورة، الدين، والسياسة. من أبرز كتبه: "حياة الصورة" "الثورة في الثورة" "الميديا والسياسة" "الله: سيرة غير رسمية"

اقتباسات من الكتاب:

-"الصورة الأولى كانت صلاة، لا فكرة."

-"ما يُرى لا يُفكر فيه بالضرورة."

-"كل عصر يعطي الصور التي يستحقها."

-"من الصورة التي تُرى بالعين، إلى الصورة التي تُرى بالعقل، يمرّ تاريخ الحضارة".