جون قيج… حين تحدّث اللون بلغة الحضارات

في تاريخ المعرفة، قلّما نلتقي بعالم أعاد تعريف مفردة شائعة في حياتنا اليومية كما فعل المؤرخ البريطاني جون قيج (John Gage) مع "اللون". هذا المفكر، القادم من أروقة جامعة كامبردج، لم يكن مجرد باحث في الفن، بل كان مؤرخًا لواحدة من أعقد لغات البشرية: اللون بوصفه رمزًا وثقافةً وسؤالًا فلسفيًا.

في زمنٍ بات اللون فيه أقرب إلى قرارات تسويقية أو ذوق بصري لحظي، جاءت كتب قيج كدعوة للتأمل العميق: هل نرى اللون كما هو؟ أم كما تعلّمت أعيننا أن تراه؟ لون بثلاثة أبعاد: فن، علم، ومعنى يُعد كتابه الأهم "اللون والثقافة: من العصور القديمة إلى التجريد" (Color and Culture) من أبرز ما كُتب في هذا الحقل. لا يقدّم فيه قيج دراسة عن الألوان بوصفها طيفًا فيزيائيًا أو تقنيات فنية فحسب، بل كـ مرآة للتاريخ البشري: من أقمشة الكهنة، إلى دروع المحاربين، إلى أيقونات القديسين، وحتى أعلام الثورات.

أما في كتابه الآخر "اللون والمعنى" (Color and Meaning)، فقد فتح بوابة الفهم الفلسفي والرمزي للون، فمثّل اللون الأحمر مثلًا ليس فقط كصبغة دموية، بل كلون الملوك والآلهة والعقوبة والحرب... حسب السياق والحضارة. بين نيوتن وغوغان... اللون في مسرح التاريخ قسّم قيج فهم اللون إلى ثلاث قوى متشابكة:

1. اللون كظاهرة فيزيائية: كما درسها نيوتن وعلوم البصريات.

2. اللون كتقنية تشكيلية: كما تعامل معه الرسامون في لوحاتهم.

3. اللون كرمز ثقافي: كما حُمّل معاني مختلفة في الأديان والأساطير.

في هذا السياق، درس قيج كيف عبّر بول غوغان عن التمرد بلون الجلد الداكن، وكيف رأى موندريان في الأصفر والأحمر والأزرق خلاصات فلسفية، وكيف حملت جداريات مصر القديمة دلالات لونية دقيقة تشير إلى العقيدة والمكانة الاجتماعية.

فكر اللون... ما بعد العين: ما ميّز قيج، أنه لم يكتب للفنانين فقط، بل للمثقفين والفلاسفة والمؤرخين وحتى علماء الأعصاب. فالألوان، بحسب أطروحاته، لا تدخل إلى عقولنا محايدة، بل مثقلة بثقافاتنا وتجاربنا. الأبيض في أوروبا رمز للزفاف، بينما في الصين رمز للموت. الأسود في الغرب يعني الحداد، وفي اليابان يدل على الشرف. بهذا الطرح، جعل قيج اللون أداة تحليل حضاري لا تقل شأنًا عن اللغة أو المعمار.

إرثٌ أكاديمي لا يبهت: تُدرّس كتبه في أقسام الفن والتصميم والفلسفة حول العالم. وظلت بحوثه تُلهِم جيلاً من الباحثين لفهم العلاقة بين اللون والهوية والسلطة والجمال. وترجمت بعض أعماله إلى لغات متعددة، كما احتفى به متحف فيكتوريا وألبرت في لندن، ومتاحف كامبردج، وكُتب عن مشروعه الفكري في مجلات أكاديمية مرموقة مثل Art Bulletin و The Burlington Magazine. أكثر كتبه شيوعا: 1. Color and Culture: Practice and Meaning from Antiquity to Abstraction (اللون والثقافة)

أهم كتبه، صدر عام 1993. يُعدّ مرجعًا أساسيًا في تاريخ اللون. غطى علاقة اللون بالفن والدين والفلسفة والعلم من العصور القديمة إلى الحداثة. تناول مفاهيم اللون عند المصريين، الإغريق، القرون الوسطى، عصر النهضة، ثم الانتقال إلى التجريدية. 2. Color and Meaning: Art, Science, and Symbolism (اللون والمعنى) يتعمق في معاني الألوان عند الفنانين والعلماء. ناقش رمزية اللون، تأثره بالضوء، تقنيات مزجه، دلالاته الثقافية. عرض دراسات حالة لفنانين مثل تيرنر، غوغان، موندريان وغيرهم.

3. The Art of Colour: The History of Colour in Art (فن اللون) كتاب مصوّر، أكثر تبسيطًا بصريًا، يُظهر تطبيقات اللون في الأعمال الفنية الكبرى. مفيد للفنانين والطلبة لفهم كيف تغير استخدام اللون عبر العصور.

خاتمة: حين نقرأ جون قيج، ندرك أن اللون لم يكن يومًا مجرد ما تراه العين، بل هو ما تراه الذاكرة والمعتقد والهوية. لقد منحنا أدوات لرؤية اللوحات والعمارات والملابس والأعلام برؤية أكثر تعقيدًا وثراءً. ومن خلاله، بات بوسعنا أن نفهم كيف صارت البشرية ترسم ذاتها باللون. في النهاية،

رحل جون قيج في 2012 بعمر 73 سنه انكب في أغلبها على دراسة اللون من عدة زوايا علمية وإنسانية. ترك إرثا ملهما؛ كتب وأبحاث ومقالات ومحاضرات تفتح آفاقا واسعة للبحث أبعاد اللون محليا سوسيولوجيا، ثقافيا، سيكلوجيا.... وووالخ من مناظير بحثية.

الرابط التالي يسرد مزيدا من سيرته وإنجازاته.