تجريدات اليمن : قراءة في لغة النور والظلام

في قلب المشهد التشكيلي العربي، يبرز اسم الدكتور ياسر العنسي، فنانًا وأكاديميًا يمنيًا، مفكرا وناقدا تشكيليا ينسج من خيوط التراث والمعاصرة نسيجًا فنيًا فريدًا. أعماله التي نتأملها اليوم، تقدم لنا نافذة على عوالم بصرية عميقة، حيث يلتقي التجريد بالتعبيرية، ويتحاور الضوء مع الظل، ليروي حكايات من صميم الوجدان الإنساني والبيئة اليمنية بأبعادها الرمزية والفلسفية.

الدكتور ياسر العنسي أبو عمار : رائد فني ومثقف أكاديمي قبل الغوص في تفاصيل لوحاته، يجدر بنا التوقف عند مكانة الدكتور العنسي وسيرته. بصفته حاصلًا على درجة الدكتوراه في الفنون التشكيلية، يجمع العنسي بين الممارسة الفنية الخالصة والتنظير الأكاديمي الرصين. هذه الخلفية المزدوجة تمنحه رؤية فريدة؛ فهو لا يكتفي بابتكار الجمال، بل يفكك مفاهيمه ويشرح أبعاده. مسيرته الأكاديمية كأستاذ جامعي في الفنون، إلى جانب مشاركاته المتعددة في المعارض الدولية والمحلية، جعلت منه صوتًا مؤثرًا في تطوير الحركة التشكيلية اليمنية، ومرجعًا لأجيال من الفنانين الشباب. إنه ليس مجرد رسام، بل هو باحث وفيلسوف ومؤرخ يرى في الفن لغةً للوجود والتعبير عن مكنونات النفس وعمق المكان.

الأعمال المعروضة: حوار الأشكال والألوان تتكون السلسلة المعروضة من ثلاث لوحات، اثنتان منها مستطيلتان (30x60 سم) وواحدة مربعة (40x40 سم)، كلها تعود لعام 2013. على الرغم من اختلاف المقاسات، إلا أنها من بالتة واحدة وتشكّل وحدة فنية متكاملة، تتشارك في لوحة ألوان مميزة وتيمات بصرية متكررة.

1. اللوحة المربعة (40x40 سم): "إيقاع حضري" هذه اللوحة هي مركز السلسلة، بتكوينها المتوازن الذي يوحي بثبات وتمركز. تغرق المساحة العلوية في سواد كثيف يتخلله تدفق من الأشكال الشبيهة بالأوراق أو القطرات الزرقاء والخضراء الداكنة كأنها رسائل الظلام، مما يخلق إحساسًا بالعمق الغامض أو ربما سماء ليلية مثقلة بالأسرار. في المنتصف، تتمركز مساحة برتقالية ورمادية اللون، كأنها مزهرية أو إناءً عتيقًا، تعكس دفئًا وحياة. تنبثق منها أشكال صفراء وبيضاء قوية، بضربات فرشاة طويلة جريئة، توحي بكتلة ضوئية متوهجة وطاقة لون ينمو في الفراغ، كرمزٌ للأمل أو للوجود المزدهر بين الظلان والنور. على جانبي الإناء، تتجلى أشكال معمارية مجردة بلون الطين الفاتح والرمادي، تذكرنا بالعمارة اليمنية التقليدية المبنية من الطين أو الحجر. الانعكاسات المائية في الجزء السفلي من اللوحة، بألوانها المتداخلة من الأصفر والأزرق والبرتقالي، تعطي إحساسا وتضيف بعدًا من التأمل. إنها لوحة تتحدث عن التوازن بين الطبيعة والبيئة والإنسان، بين الظلمة والنور، وتوحي بحياة تستمر وتزهر في قلب بيئة غنية بتاريخها.

2. اللوحة المستطيلة اليمنى (30x60 سم): "صعود وانحدار: قصة إنسان وأفق" تتميز هذه اللوحة بتكوين عمودي يشد العين نحو الأعلى. السواد الكثيف في الجزء العلوي يعود ليفرض هيمنته، لكنه يتخلله هذه المرة بقع ضوئية حمراء وبرتقالية، تتناثر كجمر متوهج أو أضواء خافتة في الأفق البعيد، ربما تمثل وميض الأمل أو الذكريات. في الجزء الأوسط، نرى مشهدًا ديناميكيًا من الألوان الترابية والرمادية، حيث تختلط درجات الأصفر والبرتقالي، وتتراقص عليها دوائر وفقاعات بيضاء وسوداء، تضفي حركة وإيقاعًا. هذا الجزء يمكن أن يمثل أفقًا مضطربًا أو أرضًا وعرة. ما يلفت النظر بشكل خاص هو الشكل العمودي الأحمر في المنتصف، والذي يبدو كعامود أو علامة طريق، يؤكد على حالة من التوجيه أو نقطة محورية. في الجزء السفلي من اللوحة، يظهر شكل بشري مجرد، بلون أبيض رمادي، يقف وحيدًا في مساحة واسعة من اللون الفاتح، وكأنه يواجه هذا الأفق الغامض. هذا الشكل يضيف بعدًا إنسانيًا عميقًا للوحة، يوحي بالتأمل، البحث، أو حتى العزلة في مواجهة المجهول.

3. اللوحة المستطيلة اليسرى (30x60 سم): "برج الظلال ونجوم الأمل" (تسمية مقترحة) تتشابه هذه اللوحة مع سابقتها في الشكل العمودي تكوينيا والسواد المهيمن في الجزء العلوي لونيا، لكنها تختلف في التفاصيل السردية. يظهر في الأسفل برج رمادي ضخم، يشبه برجًا يمنيًا قديمًا، ببساطته وتجلياته المعمارية، يقف راسخًا في قاعدة بيضاء ناصعة. هذا البرج، رغم بساطته، يرمز إلى الصمود والتاريخ العريق. المنطقة الوسطى تحمل إحساسًا بالانتقال والتغير، حيث تتداخل الألوان الترابية مع الرمادي والأزرق الداكن. يظهر قوس أحمر ساطع في هذه المنطقة، يضيف ديناميكية وربما يرمز إلى شروق أو غروب، أو حتى شعاع ضوء يخترق الظلمة. تتساقط من السماء المظلمة في الأعلى نقاط ضوئية صفراء وبيضاء، متناثرة كنجوم بعيدة أو وميض حياة، تكسر رتابة السواد وتضفي إحساسًا بالأمل والسكينة. تبرز في الأفق البعيد أشكال معمارية أخرى، غارقة في الظلال، مما يعزز الإحساس بعمق المشهد الليلي.

لغة العنسي الفنية: بين التراث والتجريد الدكتور ياسر العنسي لا يرسم المناظر الطبيعية اليمنية بشكلها الحرفي، بل يستلهم منها جوهرها ويلغي تفاصيلها المملة أو غير المثيرة. العمارة اليمنية القديمة، بأبراجها وخطوطها المميزة، لا تظهر هنا كرسوم توضيحية، بل كأشكال مجردة، كتل لونية، وخطوط هندسية تشكل جزءًا لا يتجزأ من التكوين التجريدي. هذا النهج يسمح له بالتعبير عن روح المكان وهويته دون التقيد بالواقعية الصارمة. إن استخدامه للأسود كخلفية مهيمنة، يتخللها ومضات من الألوان الدافئة، يعكس لعبة الضوء والظل التي تميز المدن اليمنية، حيث تتشابك ظلال المباني القديمة مع وهج الشمس الساطعة. هذا التباين يخلق حالة من الدراما والتأمل، كما لو أن الفنان يدعونا للتفكير في العلاقة بين الماضي والحاضر، بين الغموض والوضوح. مكانة أعماله في السياق الثقافي: تكتسب أعمال الدكتور ياسر العنسي أهمية خاصة في ظل التحديات التي يواجهها الفن والثقافة في اليمن. فهي ليست مجرد لوحات جميلة، بل هي وثائق بصرية لمرحلة زمنية، تعبير عن الصمود والجمال في وجه الصعاب. قدرته على تحويل الواقع المعقد إلى تجريدات معبرة، مع الحفاظ على روح الهوية اليمنية، يجعله فنانًا ذو تأثير عميق. ختاما، إن أعمال الدكتور ياسر العنسي هي شهادة على عمق رؤيته الفنية وقدرته على دمج الموروث البصري اليمني بأسلوب معاصر وتجريدي. هذه اللوحات تدعو المشاهد إلى رحلة تأملية، حيث تتجاوز الأشكال والألوان حدود الواقع المادي لتلامس عوالم أعمق من الرمزية والمشاعر. إنها دعوة للتفكير في الوجود الإنساني، في الأبراج التي نبنيها، وفي النجوم التي تضيء سماءنا، وفي الأمل الذي يتوهج حتى في أحلك الظروف. الدكتور العنسي، من خلال فنه، لا يضيء اللوحات فحسب، بل يضيء دروب الوعي والجمال في نفوسنا. الأعمال #مقتنيات_خاصة

#د. عصام عسيري