بين الذاكرة واللون

في أحد أعماله الحديثة، يواصل الفنان السعودي فهد خليف Art Fahad Kholaif بناء عوالمه البصرية المستلهمة من البيئة الحجازية، موثّقًا ذاكرة المكان وجمالياته من خلال لغة تشكيلية معاصرة تعبّر عن الحنين والانتماء والهوية. لوحة تمثل خلاصة مسار طويل من البحث في التراث البصري المحلي، وتحويله إلى منظومة رمزية تنبض بالحياة والدهشة. حين تتكلم الجدران لوحة أكريلك على لوح وبرواز خشب مقاس 60/60 سم إنتاج عام 2024م، تتكون من مجموعة من الأشكال المتجاورة والمركبة، تُمثّل واجهات منازل الحجاز القديمة، نوافذ، أبواب، ورواشين خشبية، تمتد في مشهد بانورامي يزخر بالتفاصيل، دون أن يفقد تماسكه البنائي. تتسلل أشجار بجذوعها النحيلة وأوراقها الخضراء، في أجزاء متعددة من اللوحة، وكأنها امتداد عضوي لذاكرة الطفولة والمكان. تنوع الألوان في أعمال خليف محكوم بحس بصري تناسق وانسجام: درجات الأبيض، البيج، والرمادي تشكل قاعدة هادئة، في حين تضيف لمسات وإيقاعات الأزرق والبني والبرتقالي بعدًا دراميًا خافتًا. لا صدام لوني في العمل، بل تناغم بصري وتوازن يشي بعمق التجربة التشكيلية لدى الفنان. تحليل فني: ذاكرة تتجلى في التكوين ينتمي العمل إلى المدرسة التعبيرية التجريدية ذات البعد السردي، حيث لا يسعى خليف إلى رسم الواقع كما هو، بل إلى إعادة تأليفه في بنية تشكيلية تنطلق من التجريد، لكنها لا تغادر روح المكان. هنا، يصبح المنزل الحجازي ليس مجرد بناء عمراني، بل رمزًا للشعور بالانتماء، ولرائحة الماضي التي تسكن الحجر والخشب. توظيفه للأشجار والنوافذ والفراغات ليس عشوائيًا، بل يندرج ضمن فلسفة فنية تمزج بين الشكل والمعنى. كل عنصر في اللوحة يحيل إلى بعد زماني أو شعوري، وكأن اللوحة خريطة ذاكرة شخصية وجماعية في آنٍ واحد. فهد خليف بين المكان والأسطورة، وُلِد على قمم جبال السروات ببلجرشي غرب السعودية، لكنه سرعان ما وجد في عموم الحجاز، بمدنه العتيقة مثل جدة ومكة، مصدر إلهام لا ينضب. منذ بداياته الفنية في التسعينات، عُرف بأسلوبه الذي يوظّف الرمزية المحلية والتقنيات المعاصرة. تمثل أعماله نسيجًا بصريًا يحاكي التراث العربي والإسلامي، لكنه لا يكتفي بتكراره، بل يعيد قراءته من منظور حداثي، يميل إلى التجريد دون أن يفقد الصلة بالجذور. عرض خليف أعماله في العديد من المعارض المحلية والدولية، ولا تزال تجربته تحظى باهتمام نقدي واسع، نظراً لقدرتها على الجمع بين الحنين والتجريب، وبين الخصوصية والانفتاح على الأساليب العالمية. موضوع يمشي بين الذاكرة والخيال، لوحة ليست مجرد صورة لبيوت قديمة، بل هي استحضار حي لذاكرة تتقاطع فيها الطفولة بالزمن، والواقع بالخيال، والمكان بالهوية. إنها دعوة للتأمل، لا في تفاصيل اللوحة فحسب، بل في علاقتنا كأفراد بجغرافيا نشأتنا وملامح أماكننا التي تسكننا بقدر ما نسكنها. د. عصام عسيري

#اللوحةمقتنيات خاصة