النحت

بقلم الدكتور رياض بنالحاج أحمد: أستاذ مساعد بالمعهد العالي للفنون الجميلة بنابل تونس

لقد ظهر النحت كأحد أهم الفنون القديمة وأبرزها فتطوّر مع تطوّر الإنسان والحضارات، ومنه تحوّلت طرق الصياغة والتنفيذ، والأبعاد المفاهيمية والجمالية. لقد كان النحت قائما على أساس جملة من المفاهيم التي تُجسّد معنى الكتلة المغلقة، مثل البري، القطع، والحذف، وهي أفعال يَعْهَدُ بها الفنان إلى إعادة التشكيل في الكتلة. كما تحوّلت صنوف النحت وأبعاده، لنجدها في أحيان متراوحة بين النحت المجسّم ثلاثي الأبعاد أو نظيره البارز، وفي أحيان أخرى، متراوحا بين البعد الوظيفي التعبيري والجمالي. إن هذا التحوّل المتعاقب للحضارات خلق بحثا دؤوبا في المادة وفي طرق الإنجاز.

التحولات الإنشائية للنحت

نجد لكلمة نحت في اللّغة عدة معان مختلفة، فالنحت في أصل اللغة، هو النشر              والبري والقطع. يُقال: نحت النجّار الخشب والعُود إذا براه وهذّب سطوحه، ومثله في الحجارة والجبال، أو في القرآن بقوله تعالى “وتنحتون من الجبال بيوتا فارهين”[1].             وقد عُرِّفت كلمة النحت في المعجم الوسيط كالآتي: “نحَتَ، نَحتًا، ونَحِيتًا. ونحت الشيءَ نحْتًا: قشره وبراه. ويقال: نَحَت الخشب، ونَحَتَ الحجر. ونحت الجبل ومنه: قطع.”[2] وبالتالي حسب المفاهيم الآنفة ذكرها فإن النحت يأتي مفيدا لتشكيل الكتلة عبر الحذف والإنقاص لتحرير الشكل من مستواه الهيولي إلى نضيره المتصوَّر لنتحوّل من الكتلة الموجودة بالقوّة إلى أخرى موجودة بالفعل.. لقد بدأ الإهتمام بالنحت بطريقة فعليّة منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر وخاصة ضمن أعمال النحات “مايكل أنجلو” الذي اهتم بالنسب والمقاييس واهتم بالتفاصيل والجزئيات فاستقى مواضيع أعماله من القصص الديني ومن الأسطورة، وهو ما انتهجه معاصروه وما حذا حذوه العديد من النحاتين لفترة. ومع بداية القرن التاسع عشر الميلادي تحوّل النحت إلى الكلاسيكية الجديدة، فعاد الاهتمام بالكتلة الرصينة والتكوين النحتي الذي تخلّى عن خصائص التصوير ولكن منذ أواخر القرن التاسع عشر بدأ الإهتمام بالقيمة التعبيرية للنحت ضمن طريقة الإنشاء، متنصّلين بذلك من الإرتباط بالنّسب  ضمن بنية الجسم الآدمي على حساب البعد التعبيري، وهو ما تمثّل من خلال أعمال النحّات “أوغست رودان”  « Auguste Rodin » الذي يُعتبر رائدا للنحت الحديث. الذي أسهم في التأثير على المنظور الجمالي النحتي، ويتجلّى ذلك خاصّة في تمثاليه “مواطنو مدينة كالاس” و”بلزاك” اللذين أرسى من خلالها قواعد جديدة في كيفية التفكير بالعمل النحتي.  

لم يعد التمثيل إذن هو الأساس في العمل النحتي، بل أصبحت هناك القيم الفنية المتمثلة في علاقات الكتل بعضها ببعض، وفي علاقتها بالفراغ. أصبح النحت الحديث منذ ذلك الحين يعتمد على القيم التجريدية أكثر مما يعتمد تمثيل الطبيعة. ولم تعد القطعة النحتية تسمّى تمثالا بل أسموها نحتا أيضا. ويُعتبر “برانكوزي” « Bankusi » أحد أهم شخصيات النحت في القرن العشرين، والمؤثّر الأساسي في أحد اتجاهاته المميزة وهو الاتجاه المستمر نحو التجريد.  ودفع في اتجاه وعي حادّ للشكل. ولقد أنجز أعمالا تقوم على الشكل البسيط، المصقول، الذي يذهب إلى معانقة الشكل بدون مواربة.

وعلى الرغم من أن النحت الواقعي الذي يهتم بشكل الإنسان كاد يندثر، إلا أن بعض النحاتين، استوحوا من حركة جسم الإنسان أعمالا فنية. ومن أشهر هؤلاء، النحات “ألبرتو جياكومتي” و”هنري مور”. كما حاول آخرون كسر الحواجز والتجميع بين النحت والتصوير التشكيلي، فأبدعوا أعمالا هجينة. وهكذا أصبح فن النحت متنوعا، ومتداخلا مع غيره من الفنون التشكيلية. وعلى غرار الحراك الثقافي والتشكيلي العالمي فقد شهدت الساحة التشكيلية التونسية، نبوغ بعض الفنانين ضمن النصف الثاني من القرن العشرين الذين درسوا بمدرسة الفنون الجميلة بتونس أو الذين واصلوا دراستهم بالخارج وأجروا العديد من التربّصات واحتكّوا بالتجارب الغربية سواء عبر المعاينة ضمن المتاحف واللقاءات والمعارض وغيرها، وهو ما أسهم في انفلات وتوهّج قريحة المبدع رأيا ونقدا و إبداعا، وهو ما تمثّل من خلال بعض التشكيلين التونسيين من بينهم النحات الهادي السلمي، فكيف كانت هته التجربة وماهي مداراتها البحثيّة؟

 

الهادي السّلمي: بناء مسيرة ونحت مخاض

 

ولد النحات التونسي الهادي السلمي سنة 1934 وتوفي سنة 1995 درس بمدرسة الفنون الجميلة بتونس ثم انتقل بعدها للدراسة بأكاديمية الفنون الجميلة بباريس سنة  1958 بين سنة 1964 و1968  تابع مرحلة تربّص بورشة النحّات كولا مريني  collamarini   (حيث تابع فترة تربص في النحت على الحجارة والخشب)  وإثر عودته إلى تونس عهد الفنان إلى تفعيل مكتسباته التقنية ومعارف ضمن أعمال فنية شارك فيها في العديد من المعارض الجماعية، ثم تمت دعوته للمشاركة في السمبوزيوم العالمي للنحت المقام في يوغسلافيا سنة 1973 أين التقى وتعرّف على النحات هنري مور   Henry Moore  . لقد كان لهذا اللقاء بليغ الأثر في تجربة الفنّان التونسي الهادي السلمي إذ تُرجم  بداية من خلال أولى أعماله في السمبوزيزم والتي جاءت تحت عنوان العصفور

 سعى الهادي السلمي من خلال هذا العمل إلى التبسيط والاقتضاب والإيحاء مستندا إلى التجاويف، هي بداية سال فيها وأسهب من خلالها لعاب الفعل التشكيلي لدى السلمي ضمن أعمال مختلفة وعبر مواد متنوعة أهمها الحجارة البرونز الحديد ضمن أحجام ضخمة.

نصب الشهداء عند مدخل المدينة بسوسة

  نصب الشهداء عند مدخل المدينة بسوسة

 إن فعل الجرأة التي تحلّى بها السّلمي جعله يخرج النحت من حدود الضيقة وذلك ضمن عرضه في المناطق الحضرية والمفترقات وهو ما أهله ليكون الرائد في هذا المجال، نظرا لقلة النحاتين ولخوفهم من التجسيم لما تعتنقه من هالة المحرّم فكان السّلمي يستخدم المواد الصّلبة (الحديد البرونز …) يعالجها بالتّطريق والثني يتلذّذ برحلة الصراع مع المادة التي ينسج من خلالها عوالمه التي تتمسرح في شكل فرد أو مجموعة تُنحت الشخوص معلنة عن قصّة، حدث، واقعة أو معبّرة عن وضعيّة ضمن الحركات….تكون الأعمال النحتية لديه متنصّلة من زخم التفاصيل والجزئيات مبتعدة عن التمثيل المباشر، هي رحلة ومرحلة عانق فيها السّلمي التجريد والإيحاء، هي تجربة خاض فيها في رحاب الغرائبي  ناسجا الجسد بقضبان المعدن، لتلتحم الفكرة بالمادة فتلحم القضبان لتعيد نسج الجسد مجدّدا في هيآت وهياكل نحيفة   صفائج وقضبان الحديد والبرونز

إشعاع قضبان من الفولاذ الملحوم

إشعاع قضبان من الفولاذ الملحوم

أما في مرحلة ثانية فقد شهدت تجربته النحتيّة تحوّلا من الأعمال الضخمة إلى نضيرتها الصّغيرة، هو تقلّص في الحجم يعانقه زخم في التشكيل النحتي، فلئن سعى السّلمي في التجربة الأولى إلى إبراز المقدرة في التعامل مع الأحجام الضخمة، والخامات عبر العرض في الساحات العامة والمفترقات، إلاّ أن هذه التجربة كانت تتشابه من حيث البعد التقني لكنها تختلف من حيث التوجّه. إذ سعى من خلالها إلى إرساء ثقافة الأثر الفني النحتي في علاقة بالشعبي واليومي، فكان ينهل من اليومي ضمن المدينة العتيقة  صورا ووقائع وأحداث، يكون الجسد الإنساني مدارها وموضوعها لتتجسّم في شكل مسرحة نحتية لحدث، أو في شكل تجسيم لشخوص يستقيها من اليومي ليعيد مسرحة حضورهاعبر العمل النحتي، ليأتي بهذا السياق كاسرا نواميس المحرّم ومحفّزا الذائقة الفنية للتعامل ومهادنة الأثر النحتي.

ولادة 1990 برونز 25صم

ولادة 1990 برونز 25صم

خطاب الجسد ومخاطبة المادة

التجديد

يجنح السلمي ضمن جملة أعماله النحتية لأن يجعل من الجسد محور اهتمامه وهو في هذا السّياق إنما بشترك مع سائر الفنانين عبر مختلف الحقبات التاريخية التي استندت للجسد كتعلة ومطيّة تشكيلية من أجل التعبير عن جملة من الهواجس والأبعاد الدلالية سواءا عبر التشخيص أو التجريد، عبر المحاكاة أو التلميح ضمن سائر الفنون كالرّسم أو الحفر أو النحت … هي رؤى تشكيلية وتجارب راهنت هلى الجسد واعتبرته مدارا للبحث، هو الزئبقي الذي كلّما حاولت أن تكشف طلاسمه إلا ووجدتك بين مرامي مختلفة تتقاذفك مدارات بحثية كما هو الشأن مع الفلاسفة وعلماء الاجتماع والنّفس الذين اختلفوا حوله، بين هذا وذاك يأتي الفنان ليستقي من رضاب المعرفة وليطوّع الجسد لجملة هواجسه، أو هو يستغلّ الجسد ضمن شكله المعطى الهيولي ليعيد نحته من جديد، ليتوائم مع خصوصيّات الفكرة المراد تحقيقها. هو بحث أو نحت أركيلوجي ضمن عوالم المادّة (الجسد) فيأتي الاستناد إلى الحذف والإنقاص والتقليص والإطالة من البراهين الجمالية للجسد التشكيلي المنشأ. هو بناء ضمن البناء، يعيد من خلاله الفنان الهادي السلمي الإنشاء من بنية الجسد يقوّض عبره معايير الجسم المثال فيعيد نحت شخوصه التي تأبى الإنفصال عن بعضها لتعلن بذلك عن رحلة الولادة، فكأن المنحوتات تتوالد من رحم بعضها البعض لتتناسل تباعا كتلا وأشكالا وتجاويف ونتوءات ومسطّحات ذات هياكل تنحو بين النحافة والاستقامة أو التسطيح والتبسيط تجمعها دراية بعمق التقنية التي تترك بصمتها وأثرها، إذ تشارك الفنان هواجس الإنشاء فتنبس بعوالمها من خلال ما تتركه من آثار عبر فعل اللحام مع القضبان الحديدية أو الصّهر مع مادّة البرونز، وهو ما يثبت حسن استخداماته التقنيّة ويترك هامشا للصدفة التي تكون وسيلة لتمرير جملة هواجس التي تتمظهر عبر بقايا المادّة المنصهرة المسكوبة أو من خلال آثار التطريق على مواده الصّلبة، فيترك أثار المواد على سطوح مجسّمات لتكون معلنة عن خوالج الفنان وتفاعلاته مع المواد المشكّلة.

 يسعى السّلمي بذلك إلى إرساء نسيج لمْسي بصري، ليخلق تفاعلا للمتلقي مع مجسماته عبر التلمّس ومحاولته استكناه رحلة الإنشاء التي عايشها الفنان أو التي مرّت بها المادّة ضمن مرحلة الإفران أو القص واللحام والتطريق، هي رحلة يُبقي الفنان على تفاصيلها، يقف عندها ليعلن عن اكتمال الأثر هي تجربة الإكتمال ضمن اللاّمكتمل، هي مرحلة ينتفي فيها الاهتمام بالجزئيات ويتغاضى فيها عن الإطناب في الاهتمام بالنّسب والمقاييس. من خلال التنكر للتفاصيل وإخفاء بعض الأعضاء كاليدين والأرجل أومن خلال التخفيف في ملامح وتفاصيل الوجه، فالسّلمي في هذا السياق إنما يهتم بالهيأة والمظهر فيبرز الكلّ دون العناية بالجزء فكأنه يترك للمتلقّي دور التكملة أو أنه يستند إلى المخزون والذاكرة لينشّطها، لتكون وسيطا ضمن بنية العمل وفي هذا السياق يقول الفنان الهادي السلمي “أنا أحبّذ التجريد، إن منحوتاتي الجديدة أغلبها تجريدية، ولكن سأبقى على الرغم من ذلك مشبعا بالتشبيه”

منحوتات مختزلة مبسطة تحمل بين جنباتها آثار عنف أو ولادة قيصرية أبى إلا أن يخرجها الفنان فتراها أحيانا بلى رؤوس أو أيادي أو أرجل، تغيب الملامح فيها، هي ولادة لفرد أو توأم أو جماعة يختلط فيها الجسد بالجسد، ليُنحت إثرها جسد جديد أو قشرة جلدية جديدة، هي أجساد السّلمي التي تظهر أحيانا في أشكال متآكلة، مهترئة قد نهشها الزمن، فكأنه يستقي صوره من المقابر ومن أديم الأرض ليتلاعب بالزّمن ويوقفه ثم يعيد إخراجها من جديد بعد أن بدأت بالتآكل، فتبدو الجلود فيها مخفّفة نحيفة مجوّفة تصل حدود التسطيح لتغيب بعض الأجزاء وتغيب التفاصيل لكنها تنتفض من جديد فكأنه يعيد (الأموات إلى الحياة)

تأتي المنحوتة مع الفنان الهادي السلمي كوحدة٬ وهذه الوحدة قائمة في صميم الأثر بناء على العلاقات القائمة بين عناصره، هذه العلاقات هي التي تُثمر في النهاية عملا فنيا له صفات مميّزة٬ فليس الأثر الفني مساويا لمجموع ما تحمله عناصره٬ بل هو النتيجة النهائية للعلاقة الجدلية بين مكوّناته. والعمل الفني وحدة واحدة ولا يمكن أن يفهم أو يتم تذوّقه جماليّا إلاّ في مثوله الكامل٬ ونحن حين نستمتع به لا نكون على وعي بعناصره المكونة له. لكن الثراء الذي يعتمل في بعض مكوّنات الأثر إنما يدعونا أحيانا إلى تفكيك واستقراء عناصره كل على حدة. وهو ما يتجلى مثلا من خلال منحوتاته، التي تحملنا إلى رحلة سفر بين عوالم الجسد، بين الولادة والإحتضان (حضن الأم للوليد، احتضان النحات للفكرة، احتضان المادة للجسد…) هي رحلة تعانق بين ثنائيات مختلفة تجعل من الأثر، متعدّد القراءات حسب المسافات والأبعاد وحسب جملة المفاهيم التي يتقوّم عليها بناء العمل والجدليات المرتهنة بمناصه…فتلوح الصورة مترائية ذات معنى أو مغزى لا تغدو أن تتبدى مستفزّة ٬ فكل جزء من العمل يستفزك نحو لمسه ومحاولة استقرائه٬ فيكون أبيّا من الوهلة الأولى٬ لا ينساب إلا من خلال محاولة ربط جملة العلاقات والعناصر ببعضها لذا وجب علينا تحليله حتى يتسنّى لنا الغوص في تفاصيله من أجل دراسته و فهم عناصره في عمومها٬ وأن أفكارنا عن هذه العناصر ليست في التحليل الأخير بل هي في مجموع ما يقوله الأثر الفني أو ما يعبّر عنه٬ أو هي كل العمل الفني.

إن أي عنصر من عناصر الأثر ليس له وجود إلاّ في التكامل الحاصل بين جميع مكوّناتها وضمن العلاقات القائمة بينها ذاك أن “للعمل الفني وحدته الماديّة التي تجعل منه موضوعا حسيا يتّصف بالتماسك والانسجام من ناحية٬ كما أن له مدلوله الباطني الذي يشير إلى موضوع خاص يعبّر عن حقيقة روحية من جهة أخرى”[3] وخلافا للشكل الذي تمنحه المادة للأثر كجسد متجلّي فإنها تظهره بتمظهرات المحتوى أو المضمون والذي يتضافر مع التعبير ليقدم الانفعال الجمالي والمعاني والأفكار٬

 ذاك أن “العمل الفني هو بمثابة ثمرة لعملية منهجية خاصة٬ ألا وهي عملية تنظيم العناصر التي تتألف منها حركته. فإن هذه الحركة هي الكفيلة بأن تخلع عليه طابعا زمنيا يجعل منه موجودا حياّ تشيع فيه الروح. ومعنى هذا أن الأثر الفني لابد أن يصدر عن مهارة إبداعية تركب الحركة ابتداء من الساكن وتحقق الزماني ابتداء من المكاني٬ وهنا يستعين الفنان بأساليب الإيقاع والتنظيم والتناسب من أجل فرض ضرب من الوحدة على ما في موضوعه من تعدّد في الأشكال أو الحركات والصور.”[4] وبالتالي فإن المادة هي التصور الماقبلي للشكل قبل نشوءه وتصوّره الذي يرسي بوادر التجلي في ذهن الفنان٬ ثم يتم بعدها التحقق الفيزيائي ذاك أن الأثر وموضوعه هو الذي يفرض مادّة دون غيرها ” فالمادة بالنسبة للعمل الفني٬ هي جوهره العيني أو جسمه٬ وبدونها يكون العمل الفني هزيلا خاويا”[5]  فالمادة بالنسبة للفنان هي مجال العمل٬ وبدونها لا يكون هناك أي عمل وكلّ فنان يتخيّر مواده التي تهمس له ويرتئيها مناسبة في تكويناته جامعا في ذلك اعتبارات عدة فيكون “مضطرّا إلى أن يأخذ في اعتباره طبيعة هذه المواد٬ وإلى تفهّم عمله بناء على ذلك.”[6] فالمادّة لها حضورها٬ كما أن إدراك الفنان لنوع المادة يجعله قادرا على استنفاذ جميع امكانياتها وعدم الوقوع في خطإ عدم الملائمة بين المادّة والموضوع، والغرض المطلوب منه. كما أن التخيّر الجيد للمادة يساهم في تحقيق الفكرة والاستكانة للشّكل الولاّد، وهو ما نجده مع الفنان الهادي السلمي ضمن اختياراته لجملة مواده التي تأتي متفاعلة معه ضمن مرحلة الصهر لما تنتجه من تموجاته فيبقي عليها الفنان عنونة لتكون موشّحة لجملة رؤاه فالشكل يأتي متفاعلا مع المادة، فيأتي قابلا لتعدّد القراءات والتأويلات “ذاك أن شكلها الخام، يثير ويوحي ويشيع أشكالا جديدة. “[7]

والجدير بالذكر أن صفات العمل الفني تتوقّف إلى حدّ كبير على نوع المواد المستخدمة. فاستخدام مادّة في غير مكانها يعني ظهور عمل فني غير متوقع ظهوره أو فشل في الوصول إلى إبداع حقيقي. فالمواد قد ترفض التشكيل على نحو معيّن٬ وتقبله على نحو آخر٬ ويبدو ذلك في المواد الكثيفة وذات المقاومة العالية فتكون سطوة المادة شديدة٬ فنجد أن”النحات لا ينحت ما يريد” على حد تعبير “برتيلمي” بل إنه ينحت ما يريده الشيء أحيانا. “فاحترام المادّة والصّور الطبيعية التي نصادفها٬ وانعدام التناسق الذي يظهر في الألياف أو في التشققات٬ كل هذا جزء هام في النحت والتنصيبة. وقد رأى “هيغل” في معرض حديثه عن الفن الرمزي أن “المادة (التجسيد) تطغى على الروح أو(المحتوى) والمحتوى الروحي يكافح هنا لكي يعثر على تعبيره الكامل٬ ولكنّه يفشل في الوصول إليه…ويعطينا ذلك نوعا من الفن هو الفن الرمزي”[8]

فالمادة وحدها كمادّة خام لا تحمل قيمة استطيقية في ذاتها٬ بل الفنان هو الذي يضفي عليها هذه القيمة٬ هذا من جهة٬ ومن جهة أخرى فإن المادّة ليست مجرّد أداة سلبية تتلقى كل ما يمليه عليها الفنان في إذعان وخضوع٬ بل إن المادة بصفتها ذات كيفيات حسية وخواص محددة تقاوم الفنان. وهي  قد لا تكون في ذاتها جمبلة٬ ولكنّها قد تعطي الفنان ادراكات حسية لمسية وعضلية تكاد تكون مشوبة بلذّة.. وبالتالي فإن الجانب التقني يفرض تواجد جدلية متناغمة بين الجانب المعرفي والممارسة التي من خلالها يقوم الفنان إثرها بمحاولة تبليغ جملة مراميه وإن ذلك ما يؤكّده “رونيه باسرون” قائلا بما معناه” التقنية بصفة عامة هي مجموع الطرق المدروسة والمُتقنة الخاصّة لإنجاز الاثر وهي في ذلك تتضمّن كلّ من المعرفة والممارسة”[9] وإن التقنية تساهم في توجيه مسار النشاط الإبداعي للفنان فيعمل السّلمي مثلا على ادماج مواده المختارة التي تبدو في الغالب متمنعة أبية صلبة يعمل على ترويضها لتصبح مطواعة على نحو من الليونة والمرونة والخفة، ، فيأتي ترتيب هذه العناصر مثيرا لعناصر حسية تستطيع في ذاتها أن تثير صورا. وإن ذلك لا يتم إلا بالتكامل بين جميع المكوّنات، فتقدير مادّة الأثر لا يكون تقديرا حقيقيا إلا إذا تم إدراج ذلك في إطار العلاقة بجميع العناصرالأخرى وفي هذا السياق يقول “جون ديوي” بما معناه:”إن الكيفيات الحسيّة سواء كانت اللّمس أم الذوق أم البصر أم السمع تنطوي على صبغة جمالية. ولكنها لا تنطوي على هذه الصبغة الجمالية على انفراد٬ بل من حيث هي مترابطة. أعني أنها ليست موجودات مجرّدة منفصلة٬ بل هي عناصر متداخلة متفاعلة.”[10] وبهذا يؤكّد على ضرورة تذوّق العمل الفني ككلّ٬ وإن هذه العناصر ومكوّنات المادة أيضا لا توجد منفصلة بل متفاعلة ومتداخلة٬ فالفنان يحاول أن يكتشف خبايا المادّة الدّفينة مطوّعا إياها خدمة لعمله فأن ينشىء العمل هو أن يغوص داخله وأن يتحسّسه، وأن يتعرّف على أبعاده، ودلالاته، وطاقاته، فتكون المادّة هي ذات الفنّان المعبّرة.فخيار الشّكل بهذا المنحى يكمن في تخيّر المادة ذاك أن المادة تستدعي الفنان وتحمل في طيّاتها نداءا عميقا تفعّله في المتفرّج، فيتفاعل معها ومع الشكل الذي شكّلته، “فالمواد تتضمّن مصير ما، أو إن شئنا القول، ميْلٌ شكلي ما. فهي لها تماسك ولون وحبة. إنها شكل كما أشرنا وبالتالي فهي تدعو وتحدّد أو تطوّر حياة أشكال الفن “[11] وإن هذه التشكلات تفرض انبلاج للمادة في ثوبها الجديد المتمثّل في الصورة بمختلف تشكّلاتها.

المراجع

  1. كتاب القرآن الكريم، سورة الشعراء، الآية 149
  2.  المعجم الوسيط
  3.  إبراهيم زكريا، مشكلة الفن، مكتبة مصر- القاهرة،  ص 32
  4. نفس المرجع٬ ص 36-37
  5. جيروم ستولنيتز٬ النقد الفني- دراسة جمالية و فلسفية٬ ترجمة فؤاد زكريا٬ الهيئة المصرية العامة للكتاب٬ الطبعة الثانية٬ القاهرة٬ 1980، ص327
  6.  جان برتيلمي٬ بحث في علم الجمال٬ ترجمة أنور عبد العزيز٬ مراجعة نظمي لوقا٬ دار نهضة مصر بالشتراك مع مؤسسة فرنكلين٬ 1971
  7. FOCILLON Henri, La Vie des Formes, Éditions P.U.F., 1970, p.52: «Ainsi leur forme, toute brute, suscite, suggère, propage d’autres formes… »
  8. ولتر ستيس٬ فلسفة هيغل٬ المجلد الثاني٬ فلسفة الروح٬ ترجمة إمام عبد الفتاح إمام٬ دار التنوير٬ الطبعة الثالثة٬ بيروت٬ 1983، ص190
  9. [9] PASSERON Réné, L’oeuvre picturale et les fonctions de l’apparence, Paris, édition librairie philosophique, J.VRIN, 1992, P.13 :

« La technique est, d’une façon qénérale, l’ensemble des procédés réfléchis et perfectibles propres à réaliser une œuvre. ELLE implique un savoir et une pratique »

  1.  جون ديوي٬ الفن خبرة٬ ترجمة زكريا ابراهيم٬ مراجعة زكي نجيب محمود٬ دار النهضة العربية- منظمة فرنكلين٬ القاهرة- نيويورك٬ 1963
  2. Ibid., p.52 :

« Les matières comportent une certaine destinée ou, si l’on veut une certaine vocation formelle. Elles ont une consistance, une couleur, un grain. Elles sont forme, comme nous l’indiquions, et, par là même, elles appellent, limitent ou développent la vie des formes de l’art. »