التطور في الفن

في مشوار الفنان التشكيلي، تشكّل التمرينات والدراسات اليومية والرصد المتكرر للحركة والكتلة والفراغ نقطة الانطلاق لنمو وتطور اللغة البصرية. يتجلى هذا المسار بوضوح في هذين الاسكتشين النادرين المبكرين للفنان المصري-الفرنسي سيد درويش، واللذين يعودان إلى أواخر الستينيات وأول السبعينات . نراهما ليس فقط كدراسات شكلية للجسد الإنساني، بل كوثيقة فنية تكشف تحوّل الرؤية من الواقعي إلى التجريدي، ومن الظاهر إلى الجوهر الحركي. الاسكتش الأول، المنفذ بقلم رصاص، يحمل عنوانين لافتين كُتبا بخط اليد: "Balance" و "Rhythm" – التوازن والإيقاع. ونجد فيه مجموعة من الدراسات التشريحية المختصرة، تُركّز على توزّع الوزن، حركة الجسد والمفاصل، وانسياب الطاقة في الوضعيات المختلفة. كل خط هنا مدروس، متزن، يحاور الكتلة والحركة، ويحمل حسًا تشكيليًا لا يزال متأثراً بتشريح وتحليل ونسب وانسجام المدرسة الأكاديمية، لكنّه لا يخلو من مغامرات حسية في التبسيط والاختزال. أما الاسكتش الثاني، المنفذ بالحبر الأسود، فيأخذنا خطوة أبعد في التحوّل من المشهد الفيزيائي إلى المجرد الحركي. فقد تحرّر الخط من قيود الشكل الوصفي وتفاصيله غير المثيرة، وصار يتبع الإيقاع الداخلي للحركة. هنا تصبح الخطوط راقصة، لينة، موجات طاقة اختزلت حركة الجسد في جوهره الإيقاعي. وهذا التحوّل اللافت يؤشر إلى النضج الفني في القدرة على رؤية ما وراء الشكل، عند القلب أو المركز النابض، إلى ما يسميه كثير من منظّري الفن "الطاقة الخفية" أو عند الفلاسفة ب "الهيولي". إن متابعة عشرات الصفحات لتراث هذا الفنان الكبير ترينا كيف يبدأ الفنان الناشئ من الرصد الواقعي، ثم شيئًا فشيئًا، مع التكرار والتأمل والتجريب، تتطور أدواته التعبيرية، وتتعمق رؤيته. وهذا النمو لا يحدث فجأة، بل يمر عبر ما يشبه "رياضة العيون واليد"، يتدرّب فيها الفنان على الإمساك بالزمن، بالوزن، بالإيقاع. هنا، يشكّل الاسكتش وسيلة بصرية للحفر في المفهوم، وليس مجرد تمرين. ومن المهم أن يدرك طلاب الفنون الجميلة والتصاميم والهندسة أهمية هذه التمارين الأولية، التي قد تبدو بسيطة أو غير مكتملة، لكنها اللبنات الأساسية التي تُبنى عليها اللغة الشخصية لكل فنان. إن الفارق بين الاسكتشين ليس فقط في الأدوات أو الأسلوب، بل في الوعي البصري الذي نضج، واتسع، وتعمّق. هكذا تتحوّل الخطوط من وصف لحركة، إلى تجسيد لنبضها. وهكذا يُصبح التمرين اليومي – حتى في أبسط أشكاله – جزءًا من رحلة الاكتشاف، لا تقل أهمية عن اللوحة النهائية. ختاما، تُظهر هذه الرسومات الأولية للفنان سيد درويش كيف يمكن للاسكتش أن يكون مرآةً لنمو داخلي وفني عميق. إنها دعوة مفتوحة لطلاب الفنون والمبدعين الناشئين للثقة في تدريباتهم، للانغماس في الرسم كأداة تأمل وتجريب واكتشاف، ولإدراك أن التجريد ليس هروبًا من الواقع، بل غوصٌ أعمق في إيقاعه الحقيقي. مقاس الأعمال A4 & A5 #مقتنيات_خاصة

#د.عصام عسيري