التشكيلي السوداني الشيخ إدريس الضو

شيخ يعزف باللون سيمفونيات مرئية

في رحاب الفن التشكيلي العربي يقف اسم الفنان السوداني الشيخ إدريس عبد الرحمن الضو شامخًا كقامة فنية أثرت المشهد الإبداعي بعمق وحس أصيل. وُلد هذا المايسترو للون في خريف عام 1956 بقرية "الجديد خليف" بولاية الجزيرة السودانية، حيث ترعرع وتشرب من معين أرض خضراء يلفها النيل، ممتصًا صفاءها وجمالها وتنوع ألوانها، ومستلهمًا من طيبة أهلها وعمق ثقافتهم ما شكل اللبنة الأولى لشخصيته الفنية الفذة. تكوين الروح والفنان: نشأة وتجلي تجلت موهبة Alshaikh Idris Aldaw الفطرية منذ طفولته المبكرة؛ فكان يشار إليه بالبنان بين أقرانه لتميزه في الرسم والتلوين وصناعة المجسمات. لم تكن هذه مجرد هوايات عابرة، بل كانت إشارات واضحة لمسار فني مقدر.

كان التحاقه بمدرسة حنتوب الثانوية، إحدى الصروح التعليمية العريقة في السودان، نقطة تحول حاسمة. ففي كنف جمعية الفنون الجميلة بالمدرسة، وتحت رعاية الفنان القدير الأستاذ عبدالحميد الفضل، وجد الشيخ إدريس مرشده ومعينه. بتشجيع وتوجيه من أستاذه، ترسخت لديه فكرة التوغل في دراسة الفن أكاديميًا، ليلتحق بعدها بكلية الفنون الجميلة والتطبيقية بالخرطوم، متخرجًا منها عام 1978م بتخصص الطباعة والتصميم وكان من أبرز خريجيها وأكثرهم تفوقا ونشاطا. هذا التكوين الأكاديمي لم يكن مجرد شهادة، بل كان صقلًا لموهبة خام، وفتحًا لمداركه على آفاق واسعة من الجمال والإبداع. لم يمكث الشيخ إدريس طويلًا في السودان بعد تخرجه، فكانت وجهته التالية إلى المملكة العربية السعودية، حيث استقر في مدينة جدة الساحرة. هناك، عمل رساما ومصمما فني في الوكالة العالمية للإعلان ومطبعتها الراقية، وامتدت إقامته لأكثر من ثلاثة عقود، رافق فيها جيل الرواد وحتى الجيل الحالي. خلال هذه الفترة، لم تنفك جدة عن إلقاء سحرها على مخيلته، لتضيف إلى مخزونه البصري القادم من النيل أبعادًا جديدة من فن العمارة الساحلية، ألوان الأسواق، حياة الناس وروح البحر. هذا التلاقح الثقافي بين الجذور السودانية العميقة والبيئة العربية النابضة بالحياة في جدة، صاغ رؤيته الفنية الفريدة من ممارساته الكثيرة. شغفه المتنامي بالرسم والتلوين دفعه في نهاية المطاف للتفرغ التام للفن التشكيلي بعد تقاعده عام 2006، ليُبحر في عالمه الخاص دون قيود، انتقل للرياض آخر حياته وتوفي بها عام 2024م.

العزف بالألوان: الانطباعية بروح سودانية يُصنف النقاد أعمال الشيخ إدريس غالبًا ضمن المدرسة الانطباعية، لكنه هو نفسه يفضل أن يرى فنه تحليقًا حرًا لأفكاره وأحاسيسه. إن أعماله ليست مجرد محاكاة للواقع، بل هي تجليات حسية تتناغم وتتراقص فيها الألوان والضوء، مستحضرةً شاعرية جوهر اللحظة بأسلوبه التعبيري المميز. يُعتبر اللون سيد الموقف في لوحات الشيخ إدريس؛ فألوانه الثرية ليست مجرد صبغات نثرية، بل هي قصيدة من نبض الحياة، وأصداء الفرح، وهمسات الحنين. إنها ألوان زاهية، نقية، وشفافة، تحتفل بالطبيعة في أبهى صورها، وبالحياة في أعمق تفاصيلها. يستخدم الشيخ الفرشاة بضربات انطباعية سريعة ومتسعة، مما يضفي على أعماله حيوية ديناميكية، وكأن كل عنصر في اللوحة يشارك في رقصة كونية. كما يولي الفنان اهتمامًا بالغًا بالضوء؛ فهو ليس مجرد عنصر إنارة، بل قوة كاشفة تمنح اللوحة إشراقًا وبهجة، وتبرز أدق التفاصيل وتمنحها عمقًا وبعدًا. تتنوع ثيمات أعماله بتنوع مصادر إلهامه، من الطبيعة والبحر وصفاء النيل ومراسي قواربه الحالمة، إلى بهجة حفلات الأعراس والرقصات الشعبية ومناظر الشارع والأسواق والحياة العامة التي تتخللها تفاصيل غنية بالألوان والحركة.

للمرأة حصة وافرة في أعماله، فهي في عينيه ليست مجرد شكل، بل هي تجسيد للجمال بحد ذاته، بكل حركاتها وسكناتها وأزيائها الملونة. حتى الخيول، تظهر في لوحاته برومانسية وحس مرهف، كأنها تستعد للمداعبة والملاطفة في مراعٍ خضراء تتباين مع ألوانها الناصعة. ورغم ميله للانطباعية، فقد استكشف الشيخ أيضًا التكوينات الشكلية والهندسية، ودمج فيها الرموز والحروف العربية، في محاولة لتقديم لغة بصرية تجمع بين التعبيرية والتجريدية.

تريلوجيا بصرية: نتأمل في ثلاث لوحات تبرز تنوع أسلوبه وعمق رؤيته: لوحة "همسات الأزقة" (مشهد المدينة): تجسد هذه اللوحة الساحرة قدرة الشيخ إدريس على التقاط جوهر الحياة اليومية بأسلوبه الانطباعي الخاص. نرى فيها أزقة مدينة عتيقة، حيث تتراصف المباني بلونها الترابي، وتتخللها أبواب ونوافذ باللونين الأخضر والأزرق الغامق. يمشي مجموعة أشخاص في وسط اللوحة، أحدهم يرتدي ثوبًا أبيض فضفاضًا يبرز بوضوح، بينما يظهر آخرون بملابس ذات ألوان دافئة كالبرتقالي والأحمر والبني. الضربات السريعة والعريضة للفرشاة تمنح المشهد حيوية وحركة، وتلغي التفاصيل الدقيقة للأشخاص، لتركز على الانطباع العام للمشهد وديناميكيته. الضوء يتخلل المساحات، مخلفًا ظلالًا خفيفة تزيد من عمق اللوحة دون أن تطغى على الألوان الزاهية. إنها دعوة للتأمل في جماليات البيئة وحياة الناس اليومية، حيث تكمن الروح في تفاصيل بسيطة تكتسي ألق اللون ونقاء الضوء.

لوحة "روحية الخط والرمز": تأخذنا هذه اللوحة الضخمة إلى عالم آخر من إبداعات إدريس، عالم أكثر تجريدًا وفلسفة. تتشكل اللوحة من تكوينات بيضاوية ودائرية متواصلة، وتضم في طياتها رموزًا وحروفًا عربية، يبدو أنها تشكّلت بقاعدة خط هندسي من ابتكاراته. الألوان المنسجمة هنا أكثر هدوءًا وتناغمًا، تتراوح بين الدرجات الترابية، الأزرق السمائي، التركوازي والأخضر الزيتوني، مع مساحات واسعة من الأبيض ولمسات خفيفة من الأحمر والأسود. هناك إحساس بالعمق والطبقات، حيث تبرز بعض العناصر وتتراجع أخرى. هذه اللوحة وأخواتها التي قدّمها حافظ قالري في معرض فردي للفنان بجدة، تعكس جانبًا آخر من شخصية الشيخ إدريس، جانبًا تأمليًا يبحث عن الجمال في تجريد الشكل وتكثيف جمالية ورمزية اللون. إنها حوار تجريدي راقٍ بين الخط واللون والشكل، يستحضر روح الفن الإسلامي بطريقة معاصرة ومبتكرة، ويدعو المتلقي لفك شفرات الدلالات الخفية داخل العمل.

لوحة "زوج آتً من أفريقيا" (بورتريهات stylized): مفعمة هذه اللوحة بقوة وسخونة التعبير وبأسلوب فريد في تناول البورتريه. نرى وجهين، يغلب عليهما دفئ اللون البرتقالي المائل للبني، وكأنهما يمثلان جزءًا من هوية جماعية. الوجوه ذات أشكال هندسية ممدودة، مع عيون كبيرة تحدق في المتلقي وتدمجه معهما في المشهد، وشفاه مفتوحة حمراء تضفي لمسة من الحيوية. خلفية اللوحة غنية باللون الأحمر ودرجاته الساخنة، مع تفاصيل وخطوط أفقية ورأسية تذكر بزخارف النسيج أو الرموز الأفريقية. الألوان الداكنة في الأسفل تمنح الزوج بروزًا وتحديدًا، وثقل واتزان لعموم مفردات العمل. تعكس هذه اللوحة تركيز الفنان على العنصر الإنساني، ولكن بأسلوب لا يعتمد على الواقعية الدقيقة بقدر ما يعتمد على التعبير عن الجوهر والمشاعر عبر التبسيط والتكثيف. إنها دعوة للتأمل في العلاقة بين الشكل والروح، وفي كيفية انتقال المشاعر عبر الألوان والخطوط. مكانته الثقافية وإرثه الخالد: لا تقتصر مكانة الشيخ إدريس على كونه فنانًا تشكيليًا مبدعًا فحسب، بل تمتد لتشمل كونه ركيزة من ركائز الحركة التشكيلية السودانية والعربية. لقد استطاع، عبر أعماله، أن يحطم عزلة الفن، مؤمنًا بأن أي مبدع يجب أن يأخذ في اعتباره تفاعل المتلقين مع إبداعه. مشاركاته العديدة في المعارض المحلية والدولية لم تكن مجرد عروض لأعماله، بل كانت جسورًا لنشر الثقافة السودانية والعربية، وتعريف العالم بجماليات التعبير بالهوية والتراث. الشيخ إدريس فنان يسعى دائمًا للتفرد والتميز، مستفيدًا من خبرته الأكاديمية وممارسته الإبداعية وثرائه الثقافي ليصوغ رؤيته الخاصة التي تأبى التصنيفات الجامدة. ألوانه تحمل البهجة، ولوحاته تنبض بالحياة، وكل ضربة فرشاة تروي حكاية من روح فنان عشق الجمال وعبّر عنه بصدق وعمق. لقد ترك الشيخ إدريس إرثًا فنيًا خالدًا يزيّن حوائط الصالات الفنية وكبار المقتنين من أفراد وجهات ثقافية، يتجلى في كل لوحة تخرج من مرسمه، لتكون شاهدة على عبقريته وتميزه، ومصدر إلهام للأجيال القادمة من الفنانين، وتستحق تجربته الوصول للعالمية؛ حيث بيعت له لوحة في دار مزادات سوثبي العريقة، فهو بحق، مايسترو يترجم الحياة إلى سيمفونية من الألوان تسعد الأبصار وتلامس الأرواح.

اللوحات أكريلك على كانفاس #مقتنيات_خاصة 70/90, 190/150, 60/90 cm

#د. عصام عسيري