إنعام سعيد.. رسّامة الحياة الهامشية

في ركنٍ هادئ من تاريخ الفن المصري، حيث تضيء أضواء نجوم الإبداع كثيرًا، توجد أسماء الجذور العميقة لشجرة الفن الحديث والمعاصر، لا تُرى من بعيد، لكنها تمسك الأرض بثبات وتثمر الجمال. من بين هذه الأسماء، تبرز الفنانة إنعام سعيد كصوت تشكيلي فريد، استطاع أن يُنطق الرصاص على الورق، ويُحيل هوامش الحياة الإنسانية إلى سردٍ بصريّ هادئٍ ومهيب.

سيرة فنّانة... زرعت الفن في الصمت:

وُلدت الفنانة في بداية القرن العشرين، وجاءت من خلفية تؤمن بقيمة التعليم والثقافة، فانطلقت مبكرًا إلى بعثة لبريطانيا 1926، حيث درست الفن في وقتٍ كانت فيه هذه الخطوة نادرة، بل ثورية. حصلت على دبلوم هيئة التعليم البريطاني في الرسم عام 1929، دبلوم جرافِك عام 1931، وشهادة تدريس الرسم والفنون، ما أهلها للعمل كأستاذة فن في المعاهد العليا.

عادت إلى مصر، لا لتستكين، بل لتقود الحراك. أسهمت في تأسيس قسم الفنون الجميلة في المعهد العالي للمعلمات، وتقلّدت فيه منصب "وكيلة المعهد"، وساهمت في تشكيل وعي فني نسائي ظلّ ممتد الأثر. أن تكون فنانة مصرية في الثلاثينيات، ومُعلّمة للأخريات، يعني أنك تحملين أكثر من فرشاة، تحملين رسالة.

مكانة ثقافية مكرّسة للصمت النبيل، فلم تكن إنعام سعيد مجرّد رسّامة موهوبة، بل واحدة من الأصوات النسائية الرائدة والمؤسسة للحركة التشكيلية المصرية. انخرطت في جماعة "الفن والحياة" بقيادة الفنان حامد سعيد، تلك الجماعة التي مزجت بين الفن والحياة اليومية، وحاولت استكشاف الجمال في المألوف والبحث في خفايا الحياة.

كانت عضوًا فعّالًا في جمعية محبي الفنون الجميلة جيل المؤسسين، وشاركت في معارض مصرية عديدة. وقد نالت ميدالية صالون القاهرة للفنون عام 1934، ثم ميدالية اليوبيل الذهبي لكلية التربية الفنية عام 1989، اعترافًا بفضلها الكبير في تكوين ذاكرة مصر البصرية والتعليمية.

الواقعية المتأملة: الفن حين يصبح مرآةً للكرامة. في لوحاتها البارزة التي تعود إلى أواخر حياتها، رسمت إنعام سعيد امرأة كبيرة، بوجهٍ متعب، وجسدٍ ينوء بثقل الأيام. ترتدي جلبابًا ريفيًا، وغطاء رأسٍ بسيط، وتقبض بيدٍ على إبريق فارغ كأنما هو ما تبقّى لها من العالم. الخطوط الدقيقة والمدروسة، والظلّ الذي يزحف على ملامحها، لا يقدمان مشهدًا من الشفقة، بل مشهدًا من التأمل الهادئ في قسوة الحياة وكرامة الكفاح الصامت.

في عمل آخر، تُجسّد سيدة تجلس على مقعد خشبي مهترئ، تحتضن موقدًا معدنيًا، وكأنها تحتضن الزمن ذاته. الإضاءة هنا تنبع من داخل الشخصية، لا من الضوء الخارجي. العينان الغائرتان، والوجه المنحني، والأصابع المتورمة، السلة والكرتون والموقد فارغ بلا طعام، كلها تفاصيل لا يمكن قراءتها إلا من خلال فنانة تعرف جيدًا معنى الكدح، ومعنى أن تكون امرأة في عالمٍ قاسٍ.

أما ذروة المشهد التشكيلي فتأتي في اللوحة التي تُجسّد امرأة بائعة خضروات تجلس وسط السوق، محاطة بالصناديق والخضروات، وتحدق في فراغ الشارع. خلفها، مئذنة أمامها تتكدّس مبانٍ قديمة متداعية، نوافذها مفتوحة على المجهول، بينما يتسلل ضوء خفيف كأنه أملٌ مشوش. هنا تكمن عبقرية إنعام سعيد؛ جعلت من هذه المرأة رمزًا لقاهرة لم تكتبها الصحف، بل عاشها البسطاء في صمت.

قلم رصاص:

في أعمال إنعام سعيد لا نجد محاولة لاستعراض المهارات، بل التزامًا هادئًا بالجمال البسيط، بالكائن الهامشي، بالإنسان المضاف إليه أو المفعول به. أجساد متعبة، أنامل متشققة، نساء يجلسن على أرصفة لا تراها الكاميرات، لكنها أصبحت عبر عيني إنعام جزءًا من ذاكرة الوطن.

استخدمت قلم الرصاص كما لو أنه خيطُ فضة، خفيف لكنه جارح. تضع الخط لا لتبني الشكل، بل لتعيد تشكيل روح الإنسان. الظل والنور يتحاوران دون صخب، والملامح لا تبالغ في التعبير، لكنها تفيض بالأثر.

من النور للظلام:

رغم أن الفنانة لم تسعَ خلف الشهرة، فإن إرثها الفني والتربوي جديرٌ بأن يُعاد اكتشافه. فنانة ومُعلمة، واقعية وصامتة، مؤمنة بقوة الفن على التعبير عن الحياة اليومية. في لوحاتها، نجد مصر الأخرى، مصر العَرَق والخبز، الأرض والنهر، مصر الأمهات المنسيات، والمساءات الخافتة.

لقد كانت إنعام سعيد واحدة من أولئك الذين يُشبهون الأشجار الصامتة، لا تُصدر صوتًا، لكنها تمنح ظلًّا وثمارًا لا تُنسى.

الأعمال مقاس ٤٠/٥٠سم # مقتنيات_خاصة